تريد واشنطن من تركيا أن تعطيها كلّ ما تريد، وعندما لا تصل إلى ذلك توجّه كلّ أدواتها ضدّ أنقرة. ما الذي يعنيه كلّ هذا السلاح الأميركي المرسل إلى شرق الفرات؟ وكلّ هذه القواعد العسكرية الأميركية في اليونان وقبرص وسوريا والعراق؟ وهل هي صدفة أن يكون كلّ هذا الحراك يتمّ في دائرة تحيط بتركيا من كلّ صوب؟
وجّهت أنقرة سهامها مجدّداً نحو واشنطن محمّلة إيّاها مسؤولية الشراكة في استهداف الجنود الأتراك قبل أيام في شمال العراق. هو الهجوم الثاني من نوعه، والمحصّلة هي 21 جندياً تركيّاً سقطوا خلال 20 يوماً في عمليّات تسلّل وهجمات مباغتة لعناصر حزب العمّال الكردستاني في منطقة “المخلب – القفل” بشمال العراق. لم تتوقّف حتى الساعة العمليات العسكرية التركية على خطّ شمالي العراق وسوريا، ولا مؤشّرات تقول إنّها ستتوقّف قريباً.
تريد واشنطن من تركيا أن تعطيها كلّ ما تريد، وعندما لا تصل إلى ذلك توجّه كلّ أدواتها ضدّ أنقرة
“محاولة انقلاب” أميركية؟
يتحدّث الإعلامي التركي المعروف طلعت أتيللا عن مخطّطات الإدارة الأميركية التي تعدّ “لمحاولة انقلابية جديدة في تركيا من خلال بعض النقلات الاستراتيجية كما يرى البعض في الداخل التركي”. سبق أن تابعنا مواقف مشابهة حمّلت واشنطن مسؤولية مباشرة في محاولة انقلاب عام 2016. لكنّ الحديث عن تمسّك أميركا بهدف من هذا النوع في هذه الآونة، هو مفاجأة للجميع في حين يشيد فريق عمل الرئيس الأميركي جو بايدن بالشراكة التركية وبأهميّتها بالنسبة للبلدين في المنطقة.
أجواء ما قبل 7 سنوات في مسار العلاقات التركية الأميركية لم تتغيّر كثيراً. واشنطن منزعجة من طريقة تعامل أنقرة مع ملفّات ثنائية وإقليمية تعنيهما، والجانب التركي ينتقد يومياً سياسات أميركا السورية والعراقية والشرق أوسطية وما تحاول أن تفعله في منطقة البحر الأسود. لكن أن تصل الأمور إلى اتّهام من هذا النوع على لسان أحد الأقلام التركية وسط أجواء الغضب الشعبي والرسمي حيال ما تقوم به مجموعات حزب العمال و”قسد” في شمالي سوريا والعراق، فهذا يعني أنّ حماية “شعرة معاوية” سيكون صعباً بالنسبة للبلدين.
أيضاً يتحدّث الإعلامي التركي المعارض فاتح برتقال في الاتّجاه نفسه، إذ يقول: “ما جرى في شمال العراق خلال 3 أسابيع لا يمكن أن يكون صدفة”. أميركا تنتظر لحظة مناسبة من الفراغ والفوضى في الداخل التركي للانقضاض.
ومثل برتقال وأتيللا يقول الكاتب الإسلامي لطيف شيمشاك إنّ “محاولات تحريك الخلايا الإرهابية للقيام بعمليات انتحارية لن تنفع. الجنّ غادر الفانوس ولا يريد أن يعود إليه قبل أن يأخذ ما يريد”. يردّد كاتب تركي رابع هو عصمت أوزشليك أنّ “الرسالة واضحة. أميركا أسقطت المسيّرة التركية، وحرّكت مجموعات داعش وحزب العمال، واستهدفت اليمن، وحرّكت خلايا الموساد في تركيا. كلّها مسائل متزامنة وذات هدف واحد. واشنطن في وضع إقليمي صعب ولذلك تحاول تهديد تركيا”. كلّ هذا تُضاف إليه اعترافات كوادر في حزب العمال تمّ استجوابها وتحدّثت عن الدعم اللوجستي المقدّم على خطّ القامشلي – السليمانية.
فما الذي تريد إدارة بايدن أن تسمعه من الرئيس التركي إردوغان أكثر من قوله: “يريدون تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة من الدماء”؟
ما يقال في الداخل التركي اليوم يعيدنا إلى خطّ البداية مع واشنطن، ويذهب إلى ما هو أبعد من تحميلها مسؤولية استهداف الجنود الأتراك في هاكورك ومتينا العراقيّتين في عمليّتين متتاليتين خلال 3 أسابيع
هل إسرائيل شريكة في المخطّط؟
نعم حسب الكثير من الأتراك. وهناك مجموعة من الإشارات التي لا يمكن القفز فوقها، وأهمّها:
– حالة الاستنفار المعلنة في صفوف الأجهزة الأمنيّة والاستخبارية التركية وتفعيل عملياتها في الداخل والخارج ضدّ جهاز الموساد ونشاطاته ضد تركيا، وموجات التوقيف والاعتقال لعشرات الجواسيس والعملاء بعد عمليات رصد ومتابعة استغرقت أسابيع طويلة تعكس حقيقة أنّ ساعة الصفر هي أميركية – إسرائيلية بقرار واحد ومن غرفة عمليات مشتركة. تحريك الورقة الكردية في الإقليم هو ما قد يخدم واشنطن وتل أبيب في هذه الظروف الصعبة التي تمرّان بها.
– تواصل القوات التركية الجوّية والبرّية بالتنسيق مع جهاز الاستخبارات استهداف مواقع لمجموعات حزب العمال الكردستاني ووحدات الحماية الكردية في شمالي سوريا والعراق، انتقاماً لعمليّتَي تسلّل ومهاجمة ضدّ مراكز عسكرية تركيّة على مقربة من مدينة متينا العراقية أدّتا إلى سقوط قتلى وجرحى في صفوف الجنود الأتراك.
– يدور الحديث في الداخل التركي مرّة أخرى عن عمليات برّية جوّية أوسع على خطّ القامشلي – الحسكة – قنديل – متينا.
– بغداد ودمشق قرّرتا الصمت والتريّث بانتظار معرفة حدود التحرّك العسكري التركي وأين سيتوقّف.
– طهران لم تفوّت فرصة من هذا النوع فتحرّكت لاستهداف أربيل تحت ذريعة فتح الأخيرة أبوابها أمام عملاء الموساد الذين يهاجمون قياداتها في العراق.
– الغامض هو التالي: هل تصل العمليات التركية إلى قلب السليمانية معقل بافل طالباني حليف “قسد” وحزب العمال وأميركا وإيران في الوقت نفسه، والذي يسهّل انتقال مجموعات حزب العمال على خطّ سوريا العراق بمعرفة ودعم القوات الأميركية الموجودة هناك؟
لن نقبل بإرهابستان على حدودنا
يحضر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى تركيا لبحث أكثر من ملفّ وللحديث “عن الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في يوم غزّة التالي”. يواصل من هناك رحلته المكوكية إلى أثينا وكأنّه يقول إنّ واشنطن تتحرّك على خطّ التقارب التركي – اليوناني، وسط أجواء تفاؤل تركي بحدوث مقايضات في الملفّات العالقة، وبينها صفقة إف – 16 وعضوية السويد الأطلسية. لكن بعد مغادرته بأيام تتحرّك مجموعات حزب العمال لمهاجمة القوات التركية في متينا. من يأمرها بالتحرّك السريع على هذا النحو ولماذا؟
على واشنطن أن تساعد في الإجابة وإلّا فإنّها ستجد كرة النار التركية في حضنها في القريب العاجل.
يعلن وزير الداخلية التركي علي يرليقايا أنّ “عمليّاتنا مستمرّة بحزم حتى تحييد آخر إرهابي”. وتنشط فرق جهاز الاستخبارات التركية جوّاً وبرّاً في استهداف المنشآت العسكرية والبنى التحتية لـ”قسد” واصطياد كوادر وقيادات حزب العمال والمتعاونين معهما.
تنقل دائرة الاتصال في الرئاسة التركية بياناً صادراً عن اجتماع أمنيّ في إسطنبول برئاسة رجب طيب إردوغان ومشاركة كبار القيادات الأمنيّة والسياسية جاء فيه أنّه “كلّما جرى تضييق الخناق على تنظيم “بي كي كي” الإرهابي في سوريا والعراق، اكتسبت محاولات إعادة تمكينه وتنشيطه زخماً.. تركيا لن تسمح قطعاً بإنشاء إرهابستان على حدودها الجنوبية، مهما كانت التضحيات”.
إقرأ أيضاً: السويد أطلسيّة: هديّة تركيا للغرب في العام الجديد؟
تفضّل واشنطن عدم التعقيب على ما يجري كي لا تغضب أنقرة أكثر من ذلك في سوريا والعراق والبحر الأحمر.
هل كنّا مجحفين بحقّ البيت الأبيض قبل أسبوعين عندما كتبنا “أميركا تحارب تركيا.. في شمال العراق؟“، في موقع “أساس” بتاريخ 4 كانون الثاني الجاري. وهل كنّا مخطئين حين خرجنا باستنتاجات تقول: “نحن في حالة حرب مع أميركا. فهل عناصر حزب العمال الكردستاني هم جنود في الجيش الأميركي؟”.
الإجابة جاءتنا قبل أيام فقط. فما يقال في الداخل التركي اليوم يعيدنا إلى خطّ البداية مع واشنطن، ويذهب إلى ما هو أبعد من تحميلها مسؤولية استهداف الجنود الأتراك في هاكورك ومتينا العراقيّتين في عمليّتين متتاليتين خلال 3 أسابيع. قناعة الأتراك هي أنّ هناك من يتقاسم النعجة مع الذئب ويبكي مع الراعي. حدود الردّ العسكري والسياسي التركي غير واضحة حتى الآن… لكنّ الأيام المقبلة ستقول الكثير.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Profsamirsalha@