أميركا تدفع ثمن “خفّتها” مع الحوثيّين

مدة القراءة 6 د


لم ينتبه الأميركيون إلى “جدّيّة” السعودية في سياستها المستمرّة منذ 10 سنوات، المعادية لجماعة الحوثيين في اليمن. أصرّت 3 إدارات متعاقبة على التعامل مع المسألة اليمنية باعتبارها ساحةً من ساحات المعارك البينيّة في الخليج، بين إيران ودول الخليج. ومتأخّرة جدّاً استفاقت على أنّ الخطر الحوثي، مثل أيّ خطر إيراني في المنطقة، قابل للتحوّل في أيّ لحظة إلى جزء من “تخريب” المشهد الدولي، وإلى واحد من أساليب “التخريب” على المصالح الدولية في العالم كلّه.

لقد تعاملت الإدارات الأميركية في واشنطن مع أزمة اليمن وفق أجندة علاقاتها مع الرياض والمجموعة الخليجية. بالمقابل تكتشف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هذه الأيام اليمن من بوّابة أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب والحرص على الممرّات الدولية. وفي الحالتين تبدو واشنطن (ولندن وغيرها) خارج متن أزمة اليمن، كما لو أنّها تهوى اللعب في هوامشها.

وسواء كان صاحب الإدارة باراك أوباما أم دونالد ترامب أم جو بايدن، فإنّ الولايات المتحدة رفضت الاعتراف بخطورة ظاهرة جماعة الحوثي وامتداداتها الإيرانية، واعتبرتها عاملاً عاديّاً من بين بقية عوامل الصراع في اليمن، الداخلية (منذ أن استولت الجماعة على صنعاء في 21 أيلول 2014)، أو الخارجية (منذ أن أطلق التحالف العربي عملية “عاصفة الحزم” في 25 آذار 2015). كما استخدمت واشنطن منذ اندلاع الأزمة قضية اليمن كأداة من أدوات الابتزاز والضغط والمناورة مع السعودية وحلفائها.

تعاملت الإدارات الأميركية في واشنطن مع أزمة اليمن وفق أجندة علاقاتها مع الرياض والمجموعة الخليجية

بدا أنّ استراتيجية واشنطن في التعامل مع إيران لإنتاج وصيانة الاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني في عهد أوباما كما في عهد بايدن، أملت سلوكاً يداري مصالح طهران في كلّ ميادين نفوذها في المنطقة، بما في ذلك في اليمن. وفق ذلك قاربت واشنطن في عهد أوباما ببرود وسلبية وتأرجح هواجس الخليجيين بشأن ما يمثّله الحوثيون من خطر يتوعّدون به على أمنهم. في المقابل راكم بايدن، منذ دخوله البيت الأبيض، المواقف والقرارات التي تمهّد، من خلال اليمن، الطريق للعودة إلى اتفاق فيينا (2015) مع إيران وإعادة إنعاشه.

“لوائح الإرهاب”.. وخفّة أميركا

إذا ما كان لافتاً أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب أدرجت الحوثيين على لوائح الإرهاب، فإنّ ذلك لم يكن من القرارات الأولى لهذه الإدارة بل من أواخرها. أعلن وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو الأمر في 11 كانون الثاني 2021، أي قبل 10 أيام من نهاية ولاية ترامب في البيت الأبيض. وطرح التوقيت حينها أسئلة بشأن انتظار الإدارة الجمهورية كلّ هذا الوقت للاستفاقة على إرهابيّة جماعة الحوثي والالتحاق بوجهة نظر السعودية وحلفائها، فيما علاقات ترامب مع المنطقة، لا سيما مع الرياض وأبوظبي، كانت ممتازة ذات طفرة استثنائية.

ليس واضحاً حتى الآن ما إذا كان إعلان بومبيو المتأخّر ينمّ عن قناعة لدى المؤسّسة الأمنيّة الأميركية التي تقوِّم هذه الجماعات أيضاً بالنظر إلى خطرها على مصالح الولايات المتحدة وأمنها الاستراتيجي، أو كان بمنزلة إجراء “رفع عتب” كرمى لعيون الحلفاء في الخليج. وأيّاً كانت التفسيرات، فإنّ الأمر كان تفصيلاً عرضياّ لدى “الدولة العميقة”، وهو ما سهّل لإدارة بايدن اتّخاذ قرار مضادّ أعلنه وزير خارجية “العهد الجديد” أنتوني بلينكن في 12 شباط 2022 برفع “الجماعة” عن لوائح الإرهاب، أي بعد 31 يوماً من قرار سلفه.

يكشف الأمر مدى الخفّة التي تتعامل بها إدارات واشنطن مع مسار ومصير بلد بات هذه الأيام يهدّد اقتصاد العالم برمّته. فإذا ما فرض نزقٌ قرار “إرهابيّة” الجماعة فإنّ نزقاً مضادّاً برّأ الإرهابيين من إرهابيّتهم. وحين سُئل بايدن قبل أيام، إثر قيام القوات الأميركية – البريطانية بقصف مواقع للحوثيين، عمّا إذا كان سيعتبر الحوثيين إرهابيين، أجاب: “إنّهم كذلك”.

أزال بايدن وصحبه “الجماعة” عن “لوائح ترامب” في الوسم بالإرهاب لأسباب كيدية. وبدا أنّ بايدن يسارع إلى إصدار قرار، لا يمرّ بالمؤسّسات (كما قرار إدارة ترامب)، ولا برصانة النظر إلى العلاقات الدولية، نكاية بقرار صدر عن سلفه ترامب الذي كان (وما زال) لا يعترف له بشرعية انتخابه رئيساً. وبدا أيضاً أنّ إزالة الحوثيين عن لوائح الإرهاب تأتي لمخالفة رؤية التحالف العربي لأزمة اليمن واتّساقاً مع العداء الذي شهره بايدن أثناء حملته الانتخابية بوجه السعودية واعداً بجعلها دولة “منبوذة”.

يبدو واضحاً أن لا حلّ لأزمة البحر الأحمر إلا بحلّ أزمة اليمن. ولا مناصّ للدول الحريصة على الاقتصاد الدولي وحماية سلاسل التوريد من فتح ملفّ اليمن والانكباب عليه

انقلابات بايدن على نفسه

انقلب موقف بايدن لاحقاً رأساً على عقب في العلاقة مع السعودية التي زارها في تموز 2022 وسعى إلى ترميم العلاقة معها والاعتراف بها رقماً صعباً لا يستطيع معها ممارسة هوايات النبذ الموعودة. وانقلب موقفه قبل أيام رأساً على عقب مرّة أخرى، ليس فقط في استنتاج إرهابيّة جماعة الحوثي حسب اعترافه، بل في الذهاب مع بريطانيا إلى استهداف الجماعة التي برّأها من الإرهاب بأطنان من الصواريخ التي قصفت 60 هدفاً داخل 6 محافظات في اليمن وقضت، وفق تقويمات واشنطن، على 40 في المئة من قدرات الحوثيين الهجومية.

مع ذلك فإنّ مقاربة الحالة الحوثية ما زالت سطحيّة يتعامل معها الأميركي من زوايا أمنيّة تُردع بالوسائل الأمنيّة. وإذا لم تصل “الجماعة” إلى قرار سياسي ذاتي أو موحى به من الراعي الإيراني لوقف الهجمات ضدّ سفن الشحن في البحر الأحمر، فإنّ استهداف الملاحة الدولية، بذريعة دعم غزّة ولذرائع أخرى استخدمت قبل ذلك، سيبقى مستمرّاً ما دام تعطيل الملاحة يجري بوسائل بسيطة (حتى القراصنة يمتلكونها) ولن يردعها قصف المطارات والبنى التحتية الحوثية الثقيلة.

حلّ أزمة اليمن أوّلاً

هكذا يبدو واضحاً أن لا حلّ لأزمة البحر الأحمر إلا بحلّ أزمة اليمن. ولا مناصّ للدول الحريصة على الاقتصاد الدولي وحماية سلاسل التوريد من فتح ملفّ اليمن والانكباب عليه.

إقرأ أيضاً: بلينكن إذ يبيع المنطقة دولةً وتطبيعاً

تدخّلت واشنطن وحلفاؤها لمنع استعادة “الشرعية اليمنية” عسكرياً لميناء الحديدة عام 2018، وهو ما كان من شأنه هزيمة ظاهرة الحوثيين التي تعملقت وتعاظمت قواها بسبب موقف هذا الغرب. لاحقاً عزّز فرض اتفاق استوكهولم الموقع السياسي للحوثيين. بدوا من الغرور والثقة بحيث باتوا طرفاً يستدرج أساطيل العالم لصدام، كالذي حصل قبل أيام، بغية الاعتراف بشرعيّتهم في حكم صنعاء والإقرار بقدرات إيران على التحكّم بأمن الملاحة في البحر الأحمر. لمَ لا و13 دولة أصدرت بياناً مشتركاً في 4 الشهر الجاري تكاد تناشد به الميليشيا الإفراج عن البحر ومضيقه.

لم تبدِ واشنطن ندماً على، أو مراجعة، لسياساتها في اليمن. حتى زعيم الأقلّية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل الذي رحّب بالضربات ضدّ الحوثيين وانتقد تأخيرها، لم ينتقد سياسة بلاده المكيافيلية في اليمن. والأرجح أنّ شيئاً من هذا لن يحدث على النحو الذي يفسّر إعراض السعودية والإمارات ودول البحر الأحمر عن المشاركة في تحالف “حرس الازدهار” الأميركي البحريّ، وامتناعها عن الانخراط في نزق جديد يفرزه مزاج آخر في واشنطن.

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…