بلينكن إذ يبيع المنطقة دولةً وتطبيعاً

مدة القراءة 6 د


تكشف جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عن سعي أميركي للتعامل مع شرق أوسط لم يعد موالياً للولايات المتحدة بالمعنى التقليدي الرتيب. فلا إسرائيل طيّعة لما يصدر من واشنطن ولا بلدان المنطقة مؤمنة بحكمة السياسات الأميركية في الحفاظ على مصالحها. بدا الرجل منذ أن استهلّ جولته من تركيا حائراً في توزيع بضاعته ومحاولة بيعها بالسبل التي ترضي ذائقة “الزبائن”.

راح بايدن يبشّر إسرائيل بأنّه سمع من عواصم المنطقة عزماً على الانخراط في خطط لإعادة الإعمار في غزّة والمشاركة في صناعة مآلات ما بعد الحرب. في بال المراقبين أنّه استطاع إزالة الشرط الذي سبق للدول العربية المانحة أن وضعته قبل أيّ انخراط ماليّ، وهو وقف إطلاق النار ومباشرة عملية سياسية ذات صدقية. فهل تغيّر ذلك؟

تكشف جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عن سعي أميركي للتعامل مع شرق أوسط لم يعد موالياً للولايات المتحدة بالمعنى التقليدي الرتيب

محادثات صعبة لبلينكن

لا شيء صدر عن العواصم التي زارها. غير أنّ ما يتسرّب أنّ الرجل خاض محادثات صعبة مع نظرائه كما مع زعماء الدول التي حلّ بها. زيارته في تركيا كانت أقلّ جفاء وتوتّراً من سابقاتها، لكنّ غياب مؤتمر صحافي أو بيان مشتركين يقدّم أعراض النفور لا الوئام. والأمر ينطبق على بقيّة وجهاته.

غير أنّ شيئاً ممّا في جعبة الرجل يُدبّر أشياء غير مريحة أو على الأقلّ غير واضحة أو غير حاسمة حازمة. وبدا أنّ عواصم عربية لم تأنس لمواقف بلينكن وتصريحاته التي تتلوّن وفق المكان والزمان. والأمر من الجسارة بحيث استدعى الأربعاء قمّة ثلاثية عاجلة في العقبة في الأردن بين الرئيسين المصري والفلسطيني والعاهل الأردني.

ولئن التأمت تلك القمّة متزامنة مع جولة الوزير الأميركي في المنطقة فهذا يعني أنّ التشاور بدا عاجلاً بناء على ما يحمله الضيف الأميركي واستباقاً له. ويبدو أنّ ما استنتجته العواصم استدعى موقفاً ثلاثياً يذكّر بموقف عربي إسلامي شامل، صدر عن القمّة المشتركة العربية الإسلامية الاستثنائية في الرياض في 11 تشرين الثاني الماضي، يعيد تأكيد وتكرار 4 محرّمات: الأوّل عدم تصفية القضية الفلسطينية. الثاني رفض تهجير الفلسطينيين من بلادهم. الثالث عدم احتلال أجزاء من قطاع غزة. الرابع عدم فصل المسارات بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

الواضح من عجالة القمّة ومواقفها أنّ الرؤية غير واضحة في خطط واشنطن وسيناريوهاتها، وأنّ دول المنطقة، وخصوصاً مصر والأردن المطلّتين على الأراضي الفلسطينية في الجغرافيا والمسار والمصير، لا تأمن لما تُدبّره واشنطن وإن يكثر الحديث عن جلبة خلاف مع تل أبيب. 

إذا ما ردّد الرئيس محمود عباس في كلّ مرّة التقى فيها مسؤولاً غربياً، بما في ذلك بلينكن، عدم فصل مسارَي القطاع والضفة، فذلك أنّ الرجل يملك معطيات خلاف ذلك في هذا الصدد لا تجد مانعاً أو رادعاً في أروقة القرار داخل إدارة الرئيس جو بايدن.

جاء بلينكن يبيع العرب دولة فلسطينية ويبيع إسرائيل تطبيعاً عربياً. ولا يبدو أنّ لسلع الوزير الأميركي سوقاً. فحتى قمّة العقبة ركّزت على المخاطر العاجلة بصفتها حقيقة فيما الكلام عن دولة فلسطين ليس إلا كلاماً

هاجس “الترانسفير” يتعاظم

الأرجح أنّ هاجس “الترانسفير” ما زال احتمالاً وارداً تقترحه بأشكال وأنماط مختلفة منابر إسرائيل وكأنّها تجد له سوقاً في العقل السياسي الغربي أوّلاً والدولي ثانياً. وعلى الرغم من تكرار واشنطن لمواقف ترفض هذه الفرضية وترفض تغيير مساحة قطاع غزّة باحتلال أجزاء منه، إلا أنّ المواقف تتغيّر وتتبدّل وفق أهواء تيارات الإدارة، ناهيك من انقلاب هويّتها إذا ما أطلّ الجمهوري دونالد ترامب على البيت الأبيض من جديد.

والحال هذه فإنّ الولايات المتحدة تعمل على مستوى عاجل يستدعي “إنزالاً” مشتركاً منسّقاً دفع بوزير الخارجية الأميركي ونظيرته الألمانية أنالينا بيربوك ومنسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى المنطقة على نحو متزامن. والعجالة مردّها إلى قلق حقيقي من توسّع رقعة الحرب باتجاه مستويات غير قابلة للتوقّع. صحيح أنّ واشنطن وحلفاءها غير قلقين من حرب إقليمية تنخرط فيها دول المنطقة، لكنّ الوزراء الضيوف يودّون ضمان ذلك من خلال توزيع وجبات مهدِّئة لعواصم المنطقة مستندين إلى مواقف غربية متطوّرة من تلك الغوغائية التي صدرت بعد ساعات على حدث 7 تشرين الأول الماضي.

تعمل الولايات المتحدة وأوروبا على تعزيز بيئة حاضنة في الشرق الأوسط لخطاب التسوية والتفاوض والسلم الذي بدأ يصدر من واشنطن وباريس وبرلين وغيرها. تودّ من خلال ذلك ضمان منطقة لا تعادي الإجراءات العسكرية الجراحية التي ظهرت ملامحها في الضربات التي وجّهها “التحالف” في سوريا والعراق ضدّ مصالح وقيادات من إيران أو تابعة لها، وتلك التي يوجّهها تحالف آخر في البحر الأحمر وقد تأخذ مستويات متقدّمة ضدّ جماعة الحوثي في اليمن.

السبق الاستثنائي

العاجل أن لا تتجاوز الحرب حدود غزّة، وأن لا يحظى حراك أذرع إيران بتفهّم أوسع. من أجل ذلك يبيع بلينكن وصحبه كلاماً معسولاً عن حلّ الدولتين وحقّ الفلسطينيين في أمن وسلام يوقف المأساة والحرب وحقّهم بدولة تستدعي مساراً سياسياً جدّياً نخاله لوهلة بات “نضالاً أميركياً” أصيلاً. وحين يحمل بلينكن إلى إسرائيل “خبراً سعيداً” يؤكّد استعداد دول في المنطقة لاستئناف مسارات التطبيع على الرغم ممّا حدث، فإنّه يضيف كلمة “لكن” بدل كلمة “شرط” التي سبق للعرب المانحين أن لوّحوا بها. وفق ذلك فإنّ معادلة بلينكن الجديدة: “التطبيع متاح “لكن” مواكب لمسار سياسي”.

إقرأ أيضاً: هوكستين والحزب “ضدّ الحرب”: ماذا عن نتانياهو؟

يحمل الوزير الأميركي “سبقاً” استثنائياً كان العرب جميعاً قد تبنّوه في قمّة بيروت عام 2002 يعِد بالسلام مع إسرائيل مقابل قيام دولة فلسطينية، فأين جديد ما يمكن أن يُبهر إسرائيل؟ أمّا في الكلام عن مسار التطبيع مع السعودية فالرياض سبق أن جاهرت برغبتها في خوض هذا المنتهى شرط قيام دولة فلسطينية (أمر ردّده بإفراط وزير الخارجية فيصل بن فرحان)، فأين جديد ما يُفحم إسرائيل؟

يقرع بلينكن طبولاً لا تُسمع في إسرائيل ولا تكترث لها عواصم العرب. لا أحد في إسرائيل، مهما قيل إنّه وسطي معتدل، قبِل بمناقشة مبدأ قيام دولة فلسطينية بعد 7 تشرين الأول ولا قبل “طوفانه”. حتى إنّ الأمر ليس حافزاً انتخابياً لأيّ مرشّح في انتخابات إسرائيل المقبلة. في المقابل لا أحد من بين مرشّحي الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة للرئاسة يؤيّد هذه الفكرة، فيما تبدو حماسة بايدن شكليّة ظرفية لا مستقبل لها.

جاء بلينكن يبيع العرب دولة فلسطينية ويبيع إسرائيل تطبيعاً عربياً. ولا يبدو أنّ لسلع الوزير الأميركي سوقاً. فحتى قمّة العقبة ركّزت على المخاطر العاجلة بصفتها حقيقة فيما الكلام عن دولة فلسطين ليس إلا كلاماً.

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…