هي حكاية على الرغم من قصر مداها الزمني، وتبدو ذات سمة ملحمية، وذلك لكثافة الدراما فيها وازدحام الوقائع وتناقض المبتدأ مع الخبر.
إنّها حكاية الفلسطينيين مع أميركا، منذ انطلاقة ثورتهم الوطنية المعاصرة، وحتى أيامنا هذه.
كان ياسر عرفات القائد البراغماتي دائم التطلّع إلى علاقة مع أميركا، وكان يوسّط “طوب الأرض”، كما يقال، لفتح أبوابها أمامه، وأشهر وسيط نزيه من ضمن وسطاء آخرين، كان المستشار النمساوي برونو كرايسكي، الذي نقل العديد من الرسائل إلى البيت الأبيض، وكانت الردود جميعاً تختزل في جملة محدودة المفردات.. “لينفّذ عرفات الشروط التي وضعها كيسنجر، وهي معروفة لديه”.
كان عرفات يراها شروطاً تعجيزية، مثل الاعتراف الصريح بقرار 242، الذي بُنيت أدبيّات ثورته جميعاً على رفضه، غير أنّ عرفات الذي عُرف عنه بأنّه لا يقطع خيوطه حتى مع إبليس، كان يواصل طرق الأبواب الموصدة ويتحايل على الألفاظ لعلّه يلقى قبولاً، فاخترع مخرجاً لم يقنع الأميركيين، وهو استعداده لقبول القرار معدّلاً، أي أن يتضمّن إشارة صريحة إلى الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، غير أنّ فقهاء قوانين الأمم المتحدة ومجلس الأمن نصحوه بالإقلاع عن حكاية التعديل، نظراً لأنّ ما يطالب به يحتاج إلى قرار جديد وهيهات أن تقبل أميركا بذلك.
عرفات ومطالب كيسنجر
انتهت تلك الحقبة بتلبية عرفات لشروط كيسنجر، وهو ما أدّى إلى الشروع في حوار رسمي بين منظمة التحرير والإدارة الأميركية لكن على مستوى منخفض، حيث جرى اللقاء الأول الذي وصف بالتاريخي في تونس، ومثّل الجانب الأميركي فيه السفير بليترو، وقابله على الجانب الفلسطيني ياسر عبد ربه عضو اللجنة التنفيذية وعبد اللطيف أبو حجلة مدير الدائرة السياسية وحكم بلعاوي سفير فلسطين في تونس.
لم تحقّق الرعاية الأميركية التي كانت فعّالة في البدايات إنهاءً للاحتكاكات المتلاحقة بين الطرفين، وهو ما حمل تهديداً باحتمالات العودة إلى نقطة الصفر، أي إلى ما قبل أوسلو
لم يُحدث ذلك اللقاء اختراقاً يُبنى عليه إلى أن انقطعت الاتصالات والحوارات بفعل عملية قام بها فصيل “أبي العباس” عُرفت بعملية السفينة أكيلي لاورو. ظلّت العلاقة متجمّدة كأنّها لم تكن، وأُضيفت إلى شروط كيسنجر شروط أخرى جديدة، منها طرد أبي العباس من اللجنة التنفيذية، وهذا رفضه عرفات بصورة قاطعة، حيث اعتبره مساساً بهيبة قيادته، وكان الرفض بتشجيع قوي من الرئيس الراحل صدام حسين، حيث كان أبو العباس مقرّباً من الأجهزة العراقية.
يمكن وصف تلك الحقبة بالحرمان من الحظوة الأميركية ولو بحدودها الدنيا، لكنّ ذلك مهّد لعلاقة الحبّ التي توّجت بدخول ياسر عرفات إلى البيت الأبيض، ومصافحته التاريخية مع إسحق رابين تحت رعاية الرئيس بيل كلينتون، وكأنّ تلك اللقطة حملت إشارة إلى المرحلة المقبلة، حين تولّى شريكا أوسلو محمود عباس وشيمون بيريز التوقيع على أوراقها في ذلك المشهد الوردي البهيج.
بعد الحرمان الطويل الأمد، وانبثاق الحبّ المشتهى، يمكن وصف تلك المرحلة “بشهر العسل”، وهو ما دفع عرفات إلى إشهار إنجازه قائلاً: “إنّني أكثر رئيس أجنبي دخل البيت الأبيض”. وبالفعل كان ذلك.
في “شهر العسل” رعت أميركا التطبيقات الأوّلية لتفاهمات واتفاقات أوسلو، وبتشجيع منها زار معظم زعماء العالم عرفات في مقارّه بغزة ورام الله وبيت لحم، وذلك قبل وبعد الزيارة التاريخية الأولى التي افتتح فيها بيل كلينتون دورة استثنائية للمجلس الوطني الفلسطيني غُيّرت خلالها بنودٌ من ميثاق منظمة التحرير، وافتتح أيضاً مطار غزة الذي مثّل أحد أهمّ أحلام وآمال عرفات في تأسيس الدولة الفلسطينية على أوّل الأرض.
حدثت في تلك الأثناء احتكاكات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكانت تبدو عرضية بحيث تمّ الاحتواء الأميركي لها، فمثلاً توغّل ضابط إسرائيلي بدبّاباته إلى بيت حانون وبعد دقائق جاء أمر مباشر من واشنطن بالانسحاب الفوري إلى ما وراء الحدود، فامتثل الضابط على الفور.
الخذلان الأميركي
لم تحقّق الرعاية الأميركية التي كانت فعّالة في البدايات إنهاءً للاحتكاكات المتلاحقة بين الطرفين، وهو ما حمل تهديداً باحتمالات العودة إلى نقطة الصفر، أي إلى ما قبل أوسلو.
تراكمت السلبيات والاحتكاكات وازداد الخطر على العملية السياسية، وهو ما دفع الرئيس بيل كلينتون إلى الإقدام على فعّاليته الأخيرة والكبرى لإنقاذ أوسلو حيث عقد مؤتمر كامب ديفيد، بمشاركة إيهود باراك وياسر عرفات، وكان الفشل الذي وقع هو بداية للمرحلة التي أصفها بالخذلان.
ما أعنيه بالخذلان قبل إلقاء المسؤولية على الطرف الأميركي والإسرائيلي، هو خذلان التوقّعات التي ازدهرت عند الفلسطينيين في بدايات شهر العسل، إذ توالت الفعّاليات الأميركية التي قاد بعضها الرئيس بوش شخصياً في لقاءات قمّة نُظّمت في شرم الشيخ والعقبة، وبعد ذلك أنابوليس. ومن كلّ هذه الفعّاليات لم يتحقّق شيء يذكر، وهو ما ولّد يقيناً لدى الفلسطينيين بأنّ الرعاية الأميركية المأمولة لم تفلح في ثني الإسرائيليين عن المضيّ قدماً في تفريغ أوسلو وسحب “الدسم” منها والإبقاء فقط على ما يخدم الخطط الإسرائيلية وفق تفسيراتها الخاصة لغموضها.
في هذه المقالة المختصرة جداً التي هي مجرّد عناوين لبعض الوقائع الكثيرة وما تحمله من دلالات، أخلص إلى أنّ مرحلة الخذلان طالت واستطالت، وها هي تتواصل بابتعاد كبير عن إمكانيات استعادة المسار السياسي من حيث بدأ، وانتهاء الضغط الأميركي على إسرائيل في هذا الاتجاه، مع تغطية حرب غزة بالمال والسلاح والسياسة والاكتفاء في ما يتّصل بالضفة استيطاناً وتنكيلاً بمجرّد الطلب من إسرائيل الرفق بالفلسطينيين.
إقرأ أيضاً: إسرائيل دولة معاقة؟؟
الخلاصة أنّ زمن الخذلان له مؤشّرات مأساوية، فمثلاً قضية اللاجئين تُختزل بإعادة النازحين من جنوب غزة إلى شمالها، والدولة الفلسطينية الموعودة تحوّلت إلى شعار كلامي، والرعاية الأميركية التقليدية لعملية السلام صارت رعاية للحرب، وهكذا.
هذه مجرّد مقالة مختصرة، كلّ سطر فيها يحتاج إلى كتاب إذا ما توخّينا معرفة تفاصيل ما حدث، إلا أنّ الحكاية هي بالفعل كما وصفت في العنوان حكاية حرمان من الحظوة وحبّ عابر وخذلان يبدو لا نهاية له.