حقّ الدفاع عن النفس لا يعطى لقوة احتلال. هكذا ينصّ القانون الدولي. إسرائيل دولة احتلال، ولذلك لا تستطيع أن تعلن الحرب على غزة بحجّة الدفاع عن نفسها، لأنّ الاحتلال الطويل الأجل لا يحتفظ للمحتلّ بأيّة ميزة في القانون الدولي، بل على العكس يحقّ لسكّان الأراضي المحتلّة أن يقاوموا الاحتلال بكلّ السبل والوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلّح.
لا يوجد أيضاً في القانون الدولي ما يسمح لأيّ دولة بأن تعلن من تلقاء نفسها وضعاً قانونياً معيّناً لمنطقة لا تخصّها، مثلما أطلقت إسرائيل على قطاع غزة صفة الإقليم المعاد. ومهما كانت درجة عداء إسرائيل لغزة، فإنّ العداء يجب أن ينصبّ على الأفعال المعادية لها في المنطقة المستهدفة، وألّا تتذرّع بفكرة العداء حتى تقوم بعملية إبادة منظّمة تقضي على فرص الحياة للسكان.
حتى لو تذرّعت إسرائيل بحقّ الدفاع الشرعي فتلك حجّة مرفوضة، لأنّ الدفاع الشرعي بحسب القانون نفسه يشترط فيه التناسب بين الفعل الضارّ والفعل المشكّل للدفاع الشرعي، وألّا يتجاوز الحدود المعقولة لردّ الاعتداء، كأن تَنتهك قواعد الحرب وتَقتل المدنيين على النحو الذي يشاهده العالم أجمع على الشاشات.
قوة دعوى جنوب إفريقيا
في هذه النقاط الجوهرية في القانون، تكمن قوة دعوى جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة. أضف إلى ذلك أنّ هذه الدعوى أُرفقت بالأدلّة والإثباتات القوية والمبرهنة التي تدين إسرائيل بهذه الجرائم:
– اقترفت الإبادة الجماعية، حيث قتل أكثر من 30 ألف فلسطيني، أي أضعاف ما حصل في مذبحة سربرنيتشا البوسنيّة التي راح ضحيّتها 7 آلاف مسلم.
– تسبّبت بضرر جسدي أو عقلي خطير، وقد تجاوز عدد الجرحى في قطاع غزة 50 ألف فلسطيني، وأمّا المعاناة النفسية للغزّيين فحجمها الهائل لا يحتاج إلى دليل.
– تعمّدت إخضاع المدنيين لأوضاع معيشية تدمّرهم كلّياً أو جزئياً، وقد دعا وزير إسرائيلي إلى منع الطعام والماء والإمدادات الطبّية والوقود عن سكّان القطاع وطالب آخر بتحويل غزة إلى معسكر اعتقال أوشفيتز.
– فرضت التدابير الرامية إلى منع الولادات، حيث دمّرت المستشفيات وقتلت الأطبّاء واستهدفت سيّارات الإسعاف بشكل متعمّد في مكان توجد فيه عشرات الآلاف من النساء الفلسطينيات الحوامل.
حقّ الدفاع عن النفس لا يعطى لقوة احتلال. هكذا ينصّ القانون الدولي. إسرائيل دولة احتلال، ولذلك لا تستطيع أن تعلن الحرب على غزة بحجّة الدفاع عن نفسها
الإصرار على الإبادة الجماعية نطق بها الوزراء الإسرائيليون والنواب علناً: نائب رئيس الكنيست نسيم فاتوري دعا إلى حرق غزة، وزير التراث عميحاي إلياهو حضّ على قصف القطاع بالنووي، وزير الخارجية المعيّن يسرائيل كاتس دعا إلى قطع الماء والكهرباء والوقود. أمّا رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو فشبّه الفلسطينيين بشعب العمالقة (العماليق) في الكتاب المقدّس اليهودي، حيث أمر الله الإسرائيلي بالقول: “الآن اذهب واضرب العماليق.. اقتل الرجل والمرأة، والرضّع”. وتصريحات النيّات هذه اقترنت بمستوى خارج عن كلّ الأعراف الإنسانية من القتل والتشريد والتدمير والحصار، وما ذلك إلّا دليل على التغوّل في الإبادة الجماعية والإصرار على التمادي في استمرار تنفيذها.
بناء على ما تقدّم تطلب بريتوريا من المحكمة، بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، حماية الفلسطينيين من أيّ ضرر إضافي جسيم وغير قابل للإصلاح، وضمان الامتثال لالتزاماتها بموجب الاتفاقية بعدم الانخراط في الإبادة الجماعية، ومنعها والمعاقبة عليها.
الرئيس الإفريقي الجنوبي سيريل رامافوزا شبّه سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية بنظام الفصل العنصري “الأبارتهايد” السابق في بلاده، وهو وأسلافه ورفاقه، ولا سيما نلسون مانديلا، الأدرى بالمعاناة والعنصرية، والأقدر على شرحها والتحذير من مخاطرها.
العجز الإسرائيلي
ستسعى إسرائيل كدولة احتلال متّهمة بجرائم الإبادة والحرب إلى إثبات عكس ما نُسب إليها أمام محكمة العدل الدولية، وستدّعي أنّ لها حقّ الدفاع عن النفس وحقّ الردّ على ما قامت به “حماس” من أعمال و”جرائم” ضدّ الإسرائيليين خلال عملية “طوفان الأقصى”. وستضع المحاكمة في إطار معاداة السامية بعدما وصفت بريتوريا بأنّها “شريكة جنائية في هجمات حماس”. وستسعى أميركا ومعها الغرب إلى تحويل المحاكمة عن مسارها حتى لا يسقطا في المحظور الذي يكذّب ادّعائهم أنّهم قوة الحماية للقانون الدولي ومنع الإبادة الجماعية. وبالفعل تعمل رئيسة المحكمة الأميركية الجنسية جوان دونوغو الوثيقة الصلة بوزارة الخارجية الأميركية ما في وسعها لتوجيه المحكمة نحو مصلحة الدولة العبرية بحسب القاضي الدولي في مجال حقوق الإنسان فرنسيس بويل الخبير في شؤون المحكمة.
لكنّ إسرائيل ستعجز عن رفع التهمة أمام الحقائق والقرائن الموجودة في الميدان، وستكون غير قادرة على نفي أو طمس حقيقة ارتكابها التهم الموجّهة إليها. وقد يطول الوقت قبل صدور القرار النهائي، إلا أنّ الهزيمة القانونية تنتظرها في محكمة العدل الدولية، وهي قلقة من هذه المحاكمة المبنيّة على حجج قويّة وموضوعية.
وقّعت إسرائيل اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية عام 1948، وأصبحت تخضع لولاية المحكمة، وأحكامها ملزمة في القانون الدولي. المشكلة أنّ المحكمة لا تملك السلطة لإجبار الجاني على تنفيذ الأحكام. وفي حال تحويل قرار المحكمة إلى مجلس الأمن لتنفيذه فإنّ “الفيتو” الأميركي سيكون له بالمرصاد وسيسقطه كما أسقط القرارات التي تطالب إسرائيل بوقف عدوانها ومواصلة احتلالها والانتهاكات.
إذا صدر قرار الإدانة لمصلحة الفلسطينيين فلن يلجم عدوانية إسرائيل، لكنّه انتصار سياسي وقانوني لقضيّتهم يمكن البناء عليه مستقبلاً في الطريق الصعب لاستعادة حقوقهم المسلوبة. وقد يكون أقوى صفعة سياسية تتلقّاها دولة الاحتلال منذ قيامها.
إقرأ أيضاً: العشائر و”الحمائل” ترفض عرضاًً إسرائيلياً لحكم غزّّة…
والمفارقة أنّها جاءت من أبعد نقطة جغرافية عن فلسطين، فكيف لو تحرّك الجوار القريب والمعنيّ بفلسطين، بالفاعلية نفسها التي تحرّكت بها جنوب إفريقيا؟