بادر الرجل مضيفه قائلاً: قبل أن نتحدّث عن الوضع الراهن، أريدُك أن تروي لي كيف استطعت تحقيق مفاجأة 6 أكتوبر؟
ضاقت عينا المسؤول وراح ينفث دخانَ غليونه مستذكراً ببطء تصاعدت وتيرته وتسارعت وتدفّقت كلماته حتى وصلت إلى ذروتها حين جزم لضيفه:
أنا مصمّمٌ على إنهاء إرثه!
كان هذا حيّزاً من الحديث الذي دار بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات ووزير الخارجية الأميركي الأكثر شهرة في القرن العشرين (والحادي والعشرين!)، والذي غاب عن المشهد العالمي نهاية العام المنصرم عن عمر جاوز مئة عام، في اللقاء الأول بين الرجلين في قصر الرئاسة المصري إثر حرب العبور في 6 أكتوبر عام 1973..
قصد السادات بالإرث الذي وجب إنهاؤه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. لم يكن السادات موارباً في ذلك، ثمّ لم يكن من مطلب في عقل كيسنجر أكثر مدعاةً للسعادة!
فلو أنّ خياله تمادى في ما سيقدّمه له السادات من مشروع لحلّ الصراع العربي الإسرائيلي لما وصلت به التخيّلات إلى ما عُرض عليه.
السلطة بأيّ ثمن بوصفها المراد الأوّل والمبتغى الأوحد الذي يقود إلى كلّ ما بعده من مشتهيات
لا سادات في فلسطين ولا كيسنجر في أميركا
تدور عجلة الزمن دورة كاملة في خمسين عاماً بالتمام والكمال ليأتي اليوم الأوّل بعدها (7 أكتوبر 2023) مختلفاً عن كلّ ما سبقه ومخالفاً لكلّ حساب أو تصوّر. فبعد ركون جميع الأطراف إلى تجميد القضية حتى إشعار آخر مع مَيل معلن ومضمر إلى تصفيتها كلّياً يأتي الحدث من مكان آخر. أنفاقُ غزّة من تحت الأرض تقلب كلّ ما كان مرتّباً ومعدّاً له فوق الأرض على مسرح الأحداث وخلف كواليسها.
قبل هذا اليوم كان التاريخ يروي روايةً دموية، شخوصُها الظاهرة عربٌ ومسلمون في الأعمّ الأغلب، لكن ليس فيها بطلٌ أو شهيد. فبعدما استعادت مصر سيناء إثر سلام منفرد مع إسرائيل، تناسلت الأحداث والحروب والمسالك الوعرة وغاب الصراع العربي الإسرائيلي عن المشهد وتلاشت القضية الفلسطينية إلى حدّ الزوال.
يبدو أنّ الصراع سيطول. فلا سادات اليوم في مصر يريد تثبيت سلطة وترسيخَ نظام جديد وتسوية بأيّ ثمن، ولا كيسنجر في الأفق الأميركي ليسوّغ أنّ السلام رحلة ساعة وأنّ الرّخاء مضبوطٌ على دقّاته.
السلطة والجنس بثلاثة أمثلة
3 أمثلة على السلطة وتنشيط الجنس:
لم تخرج كلّ الحروب والمعارك على مرّ السنوات والعقود الماضية عن أبرز المعادلات التي تقود الجنس البشري على مرّ الأزمنة والعصور، بل على العكس جاءت كتجلّيات واضحة لقاعدة ذهبية لا يضاهيها إثارةً وتحفيزاً شيءٌ آخر.. إبحث عن السلطة.
تدور عجلة الزمن دورة كاملة في خمسين عاماً بالتمام والكمال ليأتي اليوم الأوّل بعدها 7 أكتوبر مختلفاً عن كلّ ما سبقه ومخالفاً لكلّ حساب أو تصوّر
السلطة بأيّ ثمن بوصفها المراد الأوّل والمبتغى الأوحد الذي يقود إلى كلّ ما بعده من مشتهيات.
1- إسرائيل: يقود إسرائيل أحدُ أكثر الرجال انتهازية ووصولية منذ قيامها باعتراف الصديق قبل العدوّ، والغريب أنّ بنيامين نتانياهو ما يلبث يغادر حتى يعود ممسكاً بحبل السلطة على قاعدة أنا السلطة والسلطة أنا، على الرغم من كلّ ما يحيط به في السرّ والعلن من الارتكابات والشبهات والمفاسد منذ سنين، لكنّه يبقى ملتحفاً رداءَ السلطة على رأس الكيان. يُستدعى إلى المحاكم بتُهمٍ شتّى، فيحضر جلسات المحاكمة ليعود منها إلى جلسات الحكومة فيقضي ويأمر وكأنّ الدنيا بألف خير.
2- لبنان: تصارَع الجميع الشهر الماضي على التمديد لقادة الأجهزة الأمنيّة في مشهد يدعو إلى الاسترابة. فبِصرف النظر عن جدوى التمديد من عدمه، فالحاصل أنّ الرابحين والخاسرين المفترضين في لعبة السلطة لم يكونوا إلّا جماعات فرصة تنتمي إلى نخب الإدارة السياسية المحلّية الحاكمة، نشأت بينها رابطة مصالح تضاربت أو تلاقت في لحظة فراغ في سلطة رئاسة الدولة، وهو ما جعل الجميع يتحسّب لاحتمال أن يستيقظوا ذات يوم وقد أفاق ثائرو الأمس، فقاموا بما قاموا به على عجل حتّى لا يطلع النهار بما لم يتحسّبوا له من مفاجآت.. ولم يكن هذا إلا ترتيب سلطة.
3- أميركا والغرب: في أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا يقود مجموعة من الضعفاء محرّكات العالم والقوّة فيه بحكم وجودهم على رأس السلطة في ديمقراطيات كبرى أنتجت هذه النماذج في لحظات غياب قيادات حقيقية أو في لحظات ضياع وفوضى وفراغات في قيادات الأحزاب والقوى الحاكمة في هذه الدول.
هل مرّ على أميركا رئيس أضعف من جوزف بايدن؟
هل جاء على بريطانيا رئيس وزراء أدنى فاعليّة من ريشي سوناك؟
هل تلقّت فرنسا رئيساً تنقصه الحنكة والرؤيا مثل إيمانويل ماكرون؟
هل مُنيت ألمانيا بمستشار أقلّ جدّيّة وحضوراً من أولاف شولتز؟
ما الذي يبيح ويتيح لهؤلاء اتّخاذ قرارات تحدّد مصائر العالم؟
كلمة واحدة: السلطة.
بالمعنى الإباحي للكلمة: السلطة=الجنس:
برحيل هنري كيسنجر عن عالمنا عن مئة عام من صناعة الأحداث والعالم الذي نعيشه يمكننا القول باطمئنان إنّ ما بلغه وزير الخارجية الأميركي الأشهر من باب السلطة إلى مداخل المراكز وأمّهات الكتب وكبريات النظريات السياسية، حيث ظلّ يؤخذ برأيه وفتاويه حتى النفس الأخير، لا يخرج عن قاعدة ضرورة الوصول إلى السلطة والمكوث فيها قدرَ المستطاع كسبيل وحيد لكلّ مراد.. حتّى إذا ما تبادر إلى ذهنك وأنت الدبلوماسي الأشهر في العالم عرضَ الزواج على أشهر نجمات الرقص الشرقي في مصر زمن السلام.
إقرأ أيضاً: سُترة توفيق سلطان الضيّقة وأزمتنا مع الحزب
وهذا ما قام به هنري كيسنجر طالباً يدَ السيّدة الراقصة…. وقد استمهلت الفنّانة الوزير بعضاً من الوقت للتفكير.. وهي تؤدّي وصلتها الراقصة أمامه.
إنّها السلطة يا عزيزي.
.. في غياب القيادات والإرادات والرؤى لحلول مفيدة قابلة للتطبيق.. فإنّها باقية مسيطرة بأحكامها في أوكرانيا استنزافاً وفي غزّة إبادةً، ومن يدري أين ومتى ونحن في عام انتخابات رئاسة الولايات المتحدة الأميركية.
* المقولة لهنري كيسنجر: “Power is the ultimate aphrodisiac”.