غبريال أتال: زمن الصغار المثليّين

مدة القراءة 7 د


“أصغر رئيس للجمهورية في التاريخ (الفرنسيّ) يعيّن أصغر رئيس للحكومة في التاريخ (الفرنسيّ)”. صعوده السياسيّ كان “صاروخيّاً” كرئيسه. كذلك طموحه السياسيّ وثقته الكبيرة بنفسه. لذلك يلقّب بـ”ماكرون الجديد”، أو “رجل السلطة”، أو “ماكرون جونيور”.

استقالة فتعيين
بعد 20 شهراً على وجودها في “ماتينيون”، استقالت ثاني امرأة تشغل منصب رئيس حكومة في الجمهوريّة الفرنسيّة الخامسة. مساء الأحد الفائت التقاها رئيس الجمهوريّة وطلب منها الاستقالة. فقدّمتها في اليوم التالي. إنّه النظام الرئاسيّ الفرنسيّ. رئاسة الحكومة فيه وظيفة ذات “عَقد لمدّة محدّدة”، كما علّق أحد المحلّلين.
فور استقالة بورن حدّد قصر الإليزيه فترة قبل ظهر يوم الثلاثاء لإعلان اسم رئيس الحكومة الجديد. هنا لا استشارات ملزمة. ولا فراغ من أجل شخص.
صباحاً دعا ماكرون أحد “الماكرونيين” الأوائل إلى “فطور حكوميّ” دام ساعتين. عاد الرجل إلى وزارته. رأس اجتماعاً كان مقرّراً. ألقى كلمته التي أعدّها. وفي الختام قال لهم سأبقى دائماً إلى جانبكم أينما كنت. أرفق كلماته الأخيرة ببسمة. في هذه الأثناء كانت الصحافة الفرنسية ترصد كلّ كلمة. كلّ حركة. كلّ بسمة. من أجل تأكيد المؤكّد منذ ساعات. وهو أنّ غبريال أتال رئيس للحكومة الجديدة.
ولكن لماذا أراد ماكرون حكومة جديدة في منتصف ولايته الرئاسيّة؟

على الرغم من صغر سنّه، لغبريال أتال تاريخ في العمل السياسيّ

إقالة بورن بعد حرقِها
هدف الرئيس ماكرون الرئيسيّ من تشكيل حكومة جديدة هو إعطاء دفع جديد لولايته الثانية. لم يكن بإمكان حكومة بورن المتعَبة القيام بذلك. فهي سقطت في الشارع في أكثر من استحقاق على وقع تظاهرات شعبيّة مناهضة لقراراتها وتدابيرها. وكادت أن تسقط في الجمعية الوطنيّة حين طرحت “فرنسا غير الخاضعة” الثقة بها عدّة مرّات.
خلال 20 شهراً استخدمت حكومة بورن المادّة 49.3 من الدستور 23 مرّة. وهي مادّة تسمح للحكومة بإقرار قوانين فشلت في الحصول على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنيّة. من هنا كانت الحاجة ملحّة لدى ماكرون إلى رئيس حكومة وحكومة جديدين. وعلّق على ذلك أحد المحلّلين بالقول: “ماكرون رمى بورن بعدما حرقها سياسياً”.

رئيس حكومة شعبيّ
اختيار غبريال أتال لرئاسة الحكومة جاء مختلفاً عن اختيار رؤساء الحكومات السابقين في ولايتَي ماكرون. السابقون لم يكونوا معروفين لدى الفرنسيين. بينما أتال هو السياسيّ الأكثر شعبيّة اليوم لدى الفرنسيين. بحسب استطلاع للرأي نشرته صحيفة لوفيغارو إثر تعيينه، 53% من الفرنسيين عبّروا عن ارتياحهم لتعيينه: 77% منهم بسبب ديناميته، و70% بسبب حضوره المحبّب، و64% لانفتاحه على الحوار، و62% بسبب كفاءته، و54% بسبب صلابته، و51% بسبب طريقة حكمه. أمّا سنّه الصغيرة فلم تلعب دوراً كبيراً. إذ أيّده فقط 35% من الفرنسيين.
ربّما استشفّ ماكرون هذه الأرقام مسبقاً، إضافة إلى ترحيب وسائل الإعلام بتعيين أتال، الحاضر جداً فيها منذ أشهر. وهما ما شجّعاه على حسم أمره واختيار الوزير “الصغير” رئيساً للحكومة الثانية في ولايته الثانية. ولكن من أين لأتال هذه الشعبيّة وهو لا يزال في سنّ الـ 34؟

غبريال “عتّال”
على الرغم من صغر سنّه، لغبريال أتال تاريخ في العمل السياسيّ. قبل التوسّع فيه تجدر الإشارة إلى أنّه يهودي ذات جذور تونسيّة. اسم عائلته بالعربيّة “عتّال”. أجداده من اليهود السيفاراد. وزوجة جدّه لوالده من اليهود الأشكيناز.

اختيار غبريال أتال لرئاسة الحكومة جاء مختلفاً عن اختيار رؤساء الحكومات السابقين في ولايتَي ماكرون. السابقون لم يكونوا معروفين لدى الفرنسيين

يمكن القول إنّ الرجل فُطر على السياسة منذ نعومة أظافره. يروي أنّ والده كان يقرأ له أساطير عن نابوليون وهو طفل. بعمر الـ 13 سنة (2002) رافق والديه في مسيرة سياسيّة مناهضة لزعيم اليمين المتطرّف جان ماري لوبان. بعد خمس سنوات (2006) انضوى في صفوف الحزب الاشتراكيّ. كان في سنّ الـ 17.
بداية عمله السياسيّ الفعلية كانت في 2012 حين بدأ العمل في مكتب وزيرة الصحّة التي لاحظت أنّ الشابّ “فعّال ولامع وموهوب في العمل السياسيّ”. في عام 2016 انضوى أتال إلى حركة ماكرون السياسيّة، وكانت في بداياتها. في أيار 2017 فاز ماكرون بأوّل ولاية له. وفي حزيران فاز أتال بأوّل دورة نيابيّة على لوائح حركة “إلى الأمام” الماكرونيّة، ثمّ عُيّن ناطقاً باسمها. وأصبح عضواً في لجنة الثقافة والتربية في الجمعية الوطنيّة.
في عام 2018 سُلّم، وهو في سنّ الـ 29، حقيبة سكرتير الدولة للشباب في حكومة ماكرون الأولى وكانت برئاسة إدوار فيليب. فكان أصغر وزير يعيّن في الجمهوريّة الفرنسية الخامسة. ثمّ عيّن وزيراً وناطقاً باسم حكومة جان كاستكس (2020). لمع نجمه وأحبّه الفرنسيون المتسمّرون حينها أمام الشاشات لمعرفة كلّ جديد حول جائحة كورونا.
بعد انتخاب ماكرون لولاية ثانية (2022) أُوكلت لأتال حقيبة الميزانية في حكومة إليزابيت بورن. وفي تموز 2023 خَلف “باب انْدياي” (إفريقي الجذور) في وزارة التربية الوطنيّة. سريعاً لمع نجم أتال في الوزارة. بداية من خلال قرار منع ارتداء العباءة في المدارس. ثمّ من خلال نضاله ضدّ التنمّر في المدارس ومشاريعه الطموحة لإصلاح النظام التربويّ الفرنسيّ. وهو أحد التحدّيات في ولاية ماكرون الثانية. ولكنّه ليس الوحيد. فهناك تحدّيات واستحقاقات أخرى أمام أتال لإعادة تفعيل عهد ماكرون. هذه أبرزها:

استحقاقات وتحدّيات وقوانين
1- إعادة تمتين الأغلبية النيابيّة المكوّنة من حزب ماكرون (النهضة) وحزب الوسط (فرانسوا بايرو) وحزب “آفاق” (إدوار فيليب). وإعادة تحسين العلاقة مع اليمين واليسار. استطلاعات الرأي تُظهر أنّ أتال قادر على ذلك، إذ أيّد وصوله لرئاسة الحكومة 82% من الحزب الجمهوريّ، و55% من الحزب الاشتراكيّ، و50% من حزب الخضر.
2- خوض الانتخابات النيابية الأوروبيّة التي ستجري في حزيران المقبل وتُظهر استطلاعات الرأي أنّ “التجمّع الوطنيّ” سيحصل فيها على 31% من أصوات الناخبين متقدّماً بـ 10 نقاط على تحالف النهضة – الوسط – آفاق. وهو فارق كبير على أتال تقليصه في أقلّ من ستّة أشهر.
3- النجاح في تنظيم الألعاب الأولمبية التي تستضيفها فرنسا هذا الصيف. الحدث رياضيّ. بيد أنّ التحدّي سياسيّ داخليّ وخارجيّ. داخلياً، النجاح سيعيد بعض الثقة بولاية ماكرون. وخارجياً، سيعيد تلميع صورة فرنسا على الساحة الدوليّة بعد سلسلة من الإخفاقات في العديد من الملفّات الخارجيّة.
4- تنتظر حكومة أتال المقبلة مشاريع قوانين شائكة مثل قانون الموت الرحيم وقانون يتعلّق بالإخصاب في المختبر، وغيرها من القوانين المتعلّقة بحياة الإنسان وكرامته.

إقرأ أيضاً: الكنيسة الكاثوليكيّة وخطر الانقسام… بسبب المثليّين (2/2)

إضافة إلى كونه أصغر رئيس حكومة في الجمهورية الفرنسيّة، غبريال أتال هو أول رئيس حكومة مثليّ. تكلّم صراحة عن مثليّته الجنسيّة في أكثر من مقابلة إعلاميّة. كما أعرب عن أمنيته في أن يكون له ولد من خلال ما يسّمى “الحمل من أجل آخر” إذا ما أصبح شرعياً في فرنسا. فهل يسعى إلى تشريعه؟
علّقت بعض الصحف بأنّ تعيين أتال هو إعلان بدء انتخابات 2027. هل يكون أصغر رئيس للحكومة اليوم أصغر رئيس للجمهوريّة بعد ثلاث سنوات؟ كلّ شيء وارد بعد تجربة ماكرون وفي ظلّ استمرار تراجع الأحزاب التقليديّة الفرنسيّة واعتبار غالبية الفرنسيين المثلية الجنسيّة أمراً عاديّاً!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…