على مثال سوابق لا تُحصى، أظهرت عملية اغتيال “الشيخ” صالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبية أنّ هذه بلاد لا تتعلّم من مواضيها. هي لا تقرأ هذه المواضي أساساً. تشييع الراحل أظهر ما هو أسوأ:
ـ لبنان عاد إلى زمن اتفاق القاهرة عام 1969 يوم تشريع سلاح منظمة التحرير الفلسطينية على حساب الدولة.
ـ كثافة النيران والعراضات العسكرية التي رافقت الحدث كانت تتمّة لأصل شرع به الحزب وأمينه العامّ يوم قفز فوق كلّ ما هو دولة فاتحاً الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلّة ميداناً لحرب لا أفق مقروءاً لنهايتها.
ـ إعلان “السيّد” أنّ خرق أمن الضاحية “لن يمرّ من دون ردّ ولا عقاب” يحيل إلى سؤال عمّا إذا كانت هذه الرقعة تتبع لبنان، وبالتالي فإنّ اللبنانيين معنيون بالقرار من عدمه، أو أنّه يمثّل دولة مستقلّة؟
ـ هيمنة الحزب وذراعه الطولى على البلد وأهله ليست بالأمر الجديد. ما هو مستجدّ التلويح بالانخراط في حرب إقليمية من اليمن إلى بيروت، ومن دون الأخذ بالاعتبار كلّ نداءات “التعقّل” التي بلغ بعضها حدّ “الاستغاثة”.
عودة إلى زمن غابر
فعليّاً، أعادت عملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها حركة حماس، القضية الفلسطينية إلى صدارة القضايا الدولية، بعدما كادت تصبح نسياً منسيّاً. ليس هذا فحسب، بل أعادت الصراع برمّته إلى نقطة البداية، أي إلى أوّله وأصله.
هذا إنجاز تطوّر نوعي يُحسب لحركة حماس. لكنّ إعادة الصراع العربي ـ الإسرائيلي إلى الواجهة وإلى بداياته، أعادت أوضاع دول الطوق، أي الدول المجاورة التي تتشارك حدوداً مع فلسطين المحتلّة، إلى ما كانت عليه في المرحلة التي تلت إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948.
لبنان عاد إلى زمن اتفاق القاهرة عام 1969 يوم تشريع سلاح منظمة التحرير الفلسطينية على حساب الدولة
مشاريع إسرائيل
بُعيد السابع من تشرين الأول الماضي، ومع شروع إسرائيل في حربها على قطاع غزة المحاصر، طفت فوق السطح السياسي والإعلامي في المنطقة مخطّطات إسرائيل لتهجير سكان غزة الفلسطينيين إلى مصر، ليذوبوا في المجتمع المصري هناك، وتهجير سكان الضفة الغربية الفلسطينيين إلى الضفة الشرقية، أي المملكة الأردنية الهاشمية.
لاقى هذا الطرح رفضاً مصريّاً صريحاً عبّر عنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أكثر من موقف. كما لاقى رفضاً أردنيّاً كذلك على لسان أكثر من مسؤول أردني من الملك عبد الله الثاني وصولاً إلى وزير خارجيّته.
من الأكيد أيضاً أنّ هناك مخطّطات لترحيل سكان الجولان السوري المحتلّ إلى سوريا، وترحيل وتذويب فلسطينيين في لبنان، بما يتوافق مع إعلان يهوديّة الدولة الإسرائيلية. يؤكّد هذا الأمر ما رشح عن صفقة القرن التي شاع الحديث عنها وانتشر في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والتي ربّما كانت شقّت طريقها إلى أرض الواقع فعليّاً، لو تمّ التجديد له لولاية ثانية في البيت الأبيض.
في الأحوال كلّها، فإنّ مشاريع إسرائيل التوسّعية غير خافية على أحد منذ قيامها، فكيف بعد إعلان يهوديّة الدولة، والصدمة التي تلقّاها هذا الكيان، وما شكّلته من تهديد وجودي دفع مسؤولين بارزين في إسرائيل إلى عدّ الحرب الدائرة حالياً معركة وجود وبقاء؟
تاريخ غبّ الطلب أو غبّ الواقع
في لبنان، فُتحت الجبهة الجنوبية مع فلسطين المحتلّة. اشتعلت الحدود، واندلعت حرب حقيقية في أقصى الجنوب اللبناني، منذ اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى”. صرّح الأمين العامّ للحزب السيد حسن نصر الله في أكثر من خطاب بأنّ إشعال هذه الجبهة إنّما هو لإشغال الجيش الإسرائيلي والتخفيف عن قطاع غزة وإسناد المقاومين هناك.
المنطقة الجنوبية هذه التي يسيطر عليها الحزب سيطرةً سياسيةً وأمنيّةً وعسكريةً واجتماعيةً واقتصاديةً شاملةً، وغير خافية على أحد، لم “يسند” فيها قطاع غزة، ويُشغل الجيش الإسرائيلي، الحزب وحده، إذ أعلن أكثر من فصيل وحزب لبناني وفلسطيني مسؤوليّته عن عمليات عديدة انطلقت منها نحو إسرائيل.
اغتيال إسرائيل للقيادي في حركة حماس صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية لبيروت، وتوعُّد الحزب بالردّ الحتميّ، صبّا على نار الانقسام اللبناني الداخلي هذا زيتاً كثيراً
أبرز هذه القوى، بالإضافة إلى الحزب، “قوات الفجر” التابعة للجماعة الإسلامية في لبنان، و”حركة حماس” و”حركة الجهاد الإسلامي”. بقي الأمر ضمن حدود المقبول أو الأمر الواقع مع الحزب وقوات الفجر وغيرهما من الأحزاب والقوى اللبنانية، فهي أوّلاً وأخيراً قوى وأحزاب لبنانية ومسلمة لم يجرؤ كثر على انتقادها مراعاة لحساسية الوجدان الإسلامي بشقّيه السنّي والشيعي.
لكنّ الأصوات المعارضة والمنتقدة ما لبثت أن علت بعيد الإعلان عن عمليات “فلسطينية” على أرض الجنوب، وانطلاقاً منها، إذ أعادت الأخيرة إلى الأذهان تاريخاً طويلاً ومريراً يعزو إليه البعض ما آلت إليه أحوال لبنان منذ أواخر ستّينيات القرن الماضي.
انبعاث الماضي المقيت
هكذا استيقظ لبنانيون كثر على ماضٍ تبيّن أنّه لم يمضِ، إذ أعادت العمليات العسكرية الفلسطينية على أرض الجنوب ومنه، تاريخاً يبدو أنّ رحيل منظمة التحرير الفلسطينية عن لبنان بعيد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت لم يمحُه.
غلبت على التصريحات السياسية اللبنانية في وسائل الإعلام اللبنانية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي مصطلحات ظنّ البعض أنّه لن يصادفها أو يقرأها إلا في كتب التاريخ. عادت “فتح لاند” من جديد، إنّما هذه المرّة مع تعديل طفيف: “حماس لاند”، خصوصاً بُعيد إعلان حركة حماس عمّا سمّته “طلائع طوفان الأقصى”، لجذب الشباب الفلسطيني وتجنيده لتحرير الأقصى.
عاد تاريخ كامل مضى إلى الواجهة من جديد بدءاً باتفاقية القاهرة التي شرعنت العمل الفدائي الفلسطيني انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، وشرعنت أيضاً الوجود الفلسطيني المسلّح، وهو ما قاد في نهاية المطاف إلى الحرب الأهلية اللبنانية أو “حروب الآخرين على أرضنا” كما كان يقول الصحافي والسياسي الراحل غسان تويني، وبرز مجدّداً الانقسام اللبناني الحادّ حول الفلسطينيين والقضية الفلسطينية وسبل دعمها وتأييدها ودور لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي.
اغتيال إسرائيل للقيادي في حركة حماس صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية لبيروت، وتوعُّد الحزب بالردّ الحتميّ، صبّا على نار الانقسام اللبناني الداخلي هذا زيتاً كثيراً، وأعادا النقاش والخلاف السياسي اللبناني حول الاستراتيجية الدفاعية وقرار السلم والحرب إلى المربّع الأوّل:
ـ أهلاً بكم وبنا مجدّداً في الساحة اللبنانية، أرض الرسائل وملتقى قضايا العرب والإقليم والبريد السريع والفعّال.
ـ وكأنّ 15 سنةً من الاقتتال الأهلي، وما تخلّلها من اجتياح بيروت واحتلالها من قبل الإسرائيليين، ثمّ أربعة عقود من السلم الأهلي البارد والساخن، مرّت من أجل لا شيء، من أجل أن نعود إلى نقطة البداية.
إقرأ أيضاً: الاغتيالات جزء من خطّة أميركا لتغيير “مشهد” الحرب
في خطابه الأخير، مرّر الأمين العامّ للحزب عبارة تحمل ما تحمل من مدلولات. قال ما معناه أنّ الجنود الإسرائيليين ينسحبون من المواقع العسكرية التي على الحدود مع لبنان إلى محيطها ويمكثون في العراء حيث تستهدفهم وتطالهم صواريخه ونيرانه ملحقةً بهم خسائر، عازياً عدم ابتعادهم عنها إلى خشية إسرائيل من اقتحامها من قوى لبنانية وفلسطينية، لتحريرها والسيطرة عليها. عملياً، هذه شرعنة للعمليات العسكرية الفلسطينية انطلاقاً من الجنوب. والشرعنة هذه لا تحتاج إلى “اتفاق قاهرة” جديد، فالحزب هو الآمر الناهي هناك، وهو من يمنع ومن يسمح ومن يشرعن.
اتفاق القاهرة الجديد هذا، أو الشرعنة هذه التي تعيدنا إلى عام 1969، ومع ارتفاع وتيرة الانقسام السياسي، يصبح السؤال المُخيف، لكن المشروع: متى أوان عام 1975؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@