طوني بلير: عودة رجل سيّئ السمعة

مدة القراءة 8 د

 

يمتلك رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير منزلاً من خمسة طوابق في لندن، وآخر فاخراً في الريف الإنكليزي. يتقاضى بلير 300 ألف دولار عن المحاضرة الواحدة، وقبل سنوات تجاوزت ثروته مئة مليون إسترليني. ويمتلك الابن إيوان طوني بلير نصف شركة “ملتيفيرس” التي زادت قيمتها أخيراً على 1.7 مليار دولار.
في عام 2016 تأسّس “معهد طوني بلير للتغيير العالمي”، واليوم أصبح المعهد مؤسسة استشارات سياسية دولية، يعمل فيها 800 موظّف في العالم، ويتجاوز دخلها السنوي حسب بعض التقديرات 140 مليون دولار.
من بين أنشطة “معهد طوني بلير” تقديم الاستشارات لحزب العمال البريطاني، وفي حال وصول الحزب للسلطة في الانتخابات المقبلة، فإنّ معهد بلير سيكون الموجِّه الفكري والسياسي للحكومة البريطانية.
لقد خرج طوني بلير من الباب الأمامي للبناية رقم 10 في شارع داوننغ ستريت، مقرّ الحكومة في لندن، ثمّ عاد لها من الباب الخلفي، وبعدما كان يدير حكومة بلاده، أصبح يشارك في توجيه عشرات الدول، وبعدما كان راتب رئيس الوزراء نحو 80 ألف جنيه إسترليني سنوياً، بالإضافة إلى 80 ألف أخرى باعتباره عضواً في مجلس العموم، أصبح سعر محاضرة واحدة يقارب الراتب الإجمالي لرئاسة الحكومة وعضوية البرلمان لعامين كاملين.
إنّ طوني بلير واحدٌ من أخطر قادة الظلّ في العالم، وأكثرهم حضوراً في المال والسياسة والحرب.

طوني بلير مستشاراً للتهجير من غزّة
بعد شهر من العدوان الإسرائيلي على غزة، وتصاعد جرائم الإبادة الجماعية، وبينما تمنع إسرائيل وصول المساعدات الإغاثية إلى الفلسطينيين المنكوبين، رأتْ إسرائيل أنّ الشخص الأنسب لتولّي مهمّة الإغاثة الإنسانية هو طوني بلير.
حسب صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” فإنّ حكومة نتانياهو عرضت على بلير منصب “منسّق الشؤون الإنسانية في غزة”، وذلك للاستفادة من خبرته كمنسّق للّجنة الرباعية الدولية للشرق الأوسط.

المعضلة الأساسية في نموذج طوني بلير، وكلّ طوني بلير، هو ما قالته صحيفة إندبندنت ذات يوم من أنّ أبرز نقاط ضعفه هو رغبته في الاحتفاظ بموقع مؤثّر على الدوام.. إنّه لا يمتلك الشجاعة ليكون شخصاً عاديّاً

أكّد “معهد طوني بلير” أنّ لديهم مكتباً يعمل في إسرائيل، لكنّه نفى أنّ إسرائيل عرضت عليه المنصب. وبعد شهرين من الحرب زار بلير إسرائيل، وذلك في أعقاب دعوة وزيرَي المالية والأمن القومي إلى تهجير الفلسطينيين جميعاً من غزة، وعودة المستوطنين الإسرائيليين للحياة في القطاع.
في الزيارة التقى بلير مع نتانياهو وغانتس، وقالت القناة 12 الإسرائيلية إنّ طوني بلير سيصبح المنسّق العامّ للتهجير الطوعي للفلسطينيين.
نفى “معهد طوني بلير” مرّة أخرى أنّه سيعمل منسّقاً للتهجير، لكنّ الذين يعرفون بلير يعرفون جيّداً أنّ النفي لا يعني الكثير. لم تقتنع الرئاسة الفلسطينية هي الأخرى بالنفي، وهاجمت بلير، وقالت إنّه بذلك يرتكب “جريمة حرب”، واتّهمت حركة فتح بلير بأنّه يواصل عمل بلفور، وأعلنت السلطة الوطنية أنّ بلير شخص غير مرغوب فيه على الأراضي الفلسطينية.

عودة رجل سيّئ السمعة
درس طوني بلير القانون الدولي في جامعة أكسفورد، لكنّه شارك في إدارة حروب تخالف كلّ قواعد القانون الدولي، ولم يحدث ذات يوم أن كان بلير “رجل قانون” أو “داعية سلام”.. من فلسطين إلى أفغانستان إلى العراق.
بدأ بلير عمله السياسي عضواً في “مجموعة أصدقاء إسرائيل” في حزب العمّال، وبينما أدان أحداث 7 أكتوبر وهاجم حركة حماس، فإنّه لم يقُم بالإشارة إلى أيّة جرائم ارتكبتها إسرائيل، ولم يدعم رؤى الأمم المتحدة والقانون الدولي في هذا الصدد.
ربّما يكون رئيس الوزراء البريطاني الأسبق قد تقاضى راتباً كبيراً عن عمله في الرباعية الدولية من أجل السلام في فلسطين، لكنّه على مدى سنوات منصبه الطويلة لم يفعل شيئاً للفلسطينيين، بل شهدت فترة قيامه بالمهمّة ابتلاع القدس والتوسّع في بناء المستوطنات، والحصار الإسرائيلي لقطاع غزة.
لقد فشل طوني بلير مبعوثاً للسلام في الشرق الأوسط، أو أراد الفشل، وفي عام 2024 عادت إسرائيل تطرحه من جديد، ليواصل المسيرة الرديئة التي بدأ!

غريزة خاصّة
في بداية عام 2022 قام أكثر من نصف مليون بريطاني بتوقيع عريضة احتجاج ضدّ منح “الملكة إليزابيث” طوني بلير “وسام فارس”، وطالب الموقّعون بسحب الوسام، لأنّ بلير “ليس سوى مجرم حرب”، وكان الأجدر بالملكة أن تقدّمه للمحاكمة.
أكّدت وثائق بريطانية تمّ نشرها أخيراً أنّ بلير وبوش الابن كانا يعرفان جيّداً أنّ العراق خالٍ من أسلحة الدمار الشامل، لكنّهما قرّرا الكذب بهذا الصدد.
في آذار 2022 عرض بلير في حديث إذاعي لـ”BBC” رؤيته للحرب: “كثيراً ما يقول الناس إنّني اتّخذت القرار الخاطئ بخصوص المشاركة في حرب العراق وأفغانستان. لكنّ ما أراه هو أنَّهُ عليك أن تفعل ما تعتقد أنّه صائب، سواء كنتُ على حقّ أم لا.. فهذه مسألة أخرى”.. “في هذه القرارات الكبيرة أنت لا تعرف الخطأ من الصواب، وعليك أن تتبع في النهاية ما تمليه عليك غريزتك الخاصّة.. كان عليّ أن أفعل ما اعتقدتُ أنّه الشيء الصحيح”.

لقد ارتكب طوني بلير كلّ الأخطاء في هذه السطور، فقد اعتبر أنّ المهم هو ما يراه، لا ما هو صحيح، وأنّ القرار الصائب هو ما يعتقد أنّه صائب، لا ما هو صائب بالفعل. ثمّ إنّ مسألة الحقّ والباطل “مسألة أخرى” هامشية لا تهمّ في اتّخاذ القرار. وما على السياسي الذي يأمر بقتل الآلاف أو الملايين من محاذير أو ضوابط سوى ما تمليه “الغريزة الخاصّة”.

بوتين الذي يُشبه شارل ديغول
هل يمكن القول إنّ بلير رجل فكر وسياسة يمكن الاعتماد عليه بشأن تقدير الأمور؟.. تحتاج الإجابة على ذلك إلى بحث طويل، لكنّ نموذجاً واحداً يتعلّق بقراءته للرئيس بوتين ومستقبل روسيا يدلّ على عكس ذلك.
أراد بلير أن يقلّد تاتشر. فقد كانت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر هي من قدّمت وأقنعت رونالد ريغان بالعمل مع الزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف. وهي العلاقة والصداقة اللتان انتهتا بانهيار الاتحاد السوفيتي.
قام بلير بمحاكاة تاتشر، وقدّم وأقنع بوش الابن ونائبه ديك تشيني بالتعاون مع بوتين. وحسب وثائق نشرتها BBC فإنّ بلير قال لـ”ديك تشيني” نائب بوش أوائل عام 2001: “يجب منح روسيا مقعداً بين القوى العظمى، فالرئيس بوتين مواطن روسي مخلص ومتأثّر بفقدان روسيا مكانتها واحترامها في العالم، ولديه عقلية مماثلة لشارل ديغول”. وأكّد بلير لواشنطن أنّ دعم بوتين من شأنه أن يشجّعه على تبنّي النموذج الاقتصادي للغرب، وتأييد المواقف الغربية.
لم يكن تقدير بلير للأمور صحيحاً، فقد تبنّى بوتين النموذج الاقتصادي الغربي، لكنّه لم يؤيّد المواقف الغربية. وبعد سنوات توسّعت روسيا البوتينيّة في اتجاه أوروبا، وفشلت لندن في لجم طموحات موسكو في شرق أوروبا.

طوني بلير والإمام الأكبر
في خريف 2021 قال بلير إنّ الإسلام الراديكالي لا يزال الخطر رقم 1 في العالم، وحتى لو كان مركزه بعيداً عنّا فإنّ تهديده للعالم يزداد سوءاً. ويجب اعتماد استراتيجية مشتركة مع الصين وروسيا لمواجهة الإسلام الراديكالي.
لم يقُل طوني بلير ما هي الجماعات التي تنضوي تحت اسم الإسلام الراديكالي، ولا سيما أنّ بلاده تؤوي الكثير من رموز تيارات دينية يعتبرها الأزهر الشريف جماعات راديكالية. كما أنّ استعانة بلير بروسيا والصين اللتين تضمّان أقلّيات مسلمة ذات ثقل، من دون توضيح ماهية جماعات الإسلام الراديكالي التي تهدّدهما، أشبه بتحريض على عموم المسلمين في الشرق والغرب.
حين كان بلير رئيساً للوزراء في بريطانيا من عام 1997 إلى عام 2007 التقى الإمام الأكبر الدكتور محمد سيّد طنطاوي شيخ الأزهر 4 مرّات، اثنتان منها في مقرّ رئاسة الوزراء في لندن، واثنتان في مكتب الإمام الأكبر بالقاهرة.
طلبت الخارجية البريطانية من بلير أن يلتقط صورةً مع شيخ الأزهر، وذلك لتحسين صورة الحكومة البريطانية لدى مسلمي المملكة المتحدة والعالم. وكان من بين ما وصل إلى بلير بشأن أهميّة لقاء شيخ الأزهر: “إنّه أكبر شيخ في العالم السنّيّ، والأرفع مكانة والأعلى قيمة.. ولقاؤه يُظهر احترامنا للإسلام، وتقديرنا لحوار الثقافات”.

إقرأ أيضاً: إسرائيل تدقّ طبول الحرب مع مصر.. والقاهرة تسمع وتستعدّ..

في جميع المرّات تحدّث شيخ الأزهر عن أهمية وقف المظالم الإسرائيلية وإقامة دولة فلسطينية، وكذلك أهمية الحوار بين الأديان ودعم السلام العالمي. وفي جميع المرّات أيضاً لم يتحدّث طوني بلير كلمةً واحدة عن فلسطين!
عاش بلير عشر سنوات في السلطة، واقترب السياسي السبعينيّ من عشرين أخرى في سُلطة الظلّ.. ولم يبق في تاريخه سوى اتّهامات بجرائم حرب في العراق وأفغانستان، واتّهامات باستعداده لجريمة حرب جديدة في غزة.
المعضلة الأساسية في نموذج طوني بلير، وكلّ طوني بلير، هو ما قالته صحيفة إندبندنت ذات يوم من أنّ أبرز نقاط ضعفه هو رغبته في الاحتفاظ بموقع مؤثّر على الدوام.. إنّه لا يمتلك الشجاعة ليكون شخصاً عاديّاً.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة، الأمين العامّ لاتّحاد كتّاب إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@

 

مواضيع ذات صلة

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…

كنّا نخاف منه وصرنا نخاف عليه

قبل عام 1969 كان العالم العربي والإسلامي يتدافع نحو أخذ صورة مع جمال عبدالناصر، ثمّ بعد العام نفسه صار العرب والمسلمون ومعهم عبدالناصر يتدافعون للوقوف…

دعاية “الحزب” الرّديئة: قصور على الرّمال

لا تكفي الحجج التي يسوقها “الحزب” عن الفارق بين جنوب الليطاني وشماله للتخفيف من آثار انتشار سلاحه على لبنان. سيل الحجج المتدفّق عبر تصريحات نوّاب…

معايير أميركا: ملاك في أوكرانيا.. شيطان في غزّة

تدور حرب ساخنة في كلّ من أوروبا (أوكرانيا)، والشرق الأوسط (غزة – لبنان). “بطل” الحرب الأولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، و”بطل” الحرب الثانية رئيس الوزراء…