منذ بدء الحرب الإسرائيلية الهمجية بعنوان حملة “السيوف الحديدية” على قطاع غزة، تواجه السلطة الفلسطينية مجموعة تحدّيات تجعلها في عين العاصفة، لتغدو كأنّها تمشي على حدّ السيف:
– فهي من جهة تواجه أزمة اقتصادية خانقة، بسبب تجميد تصاريح العمّال والتحاويل الماليّة، التي أتت لتتوّج السياسة الإسرائيلية بالتضييق الممنهج عليها منذ حصار رام الله واغتيال أبي عمّار.
– ومن جهة أخرى تتعرّض لضغوط داخلية هائلة حيث يتمّ وصمها بالخيانة والعمالة من قبل آلة حماس الدعائية، عن الضغوط الأوروبية التي تنصبّ على رأس السلطة محمود عباس.
لا حماستان ولا فتحستان
لا تزال حكومة اليمين المتطرّف الإسرائيلي ترفض المقترح الأميركي بتأهيل السلطة الفلسطينية وتسليمها حكم قطاع غزة. ومنذ أيام قليلة، قال رئيسها بنيامين نتانياهو في تصريحات نقلتها صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية: “لن أسمح لإسرائيل بتكرار خطأ أوسلو.. غزة لن تكون حماستان ولا فتحستان”. علاوة على تلميحه إلى احتمال نشوب حرب ضدّ قوات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وكما أنّ إسرائيل رعت وشجّعت الحفريّات تحت المسجد الأقصى بحثاً عن الهيكل المزعوم، فإنّ حكوماتها المتعاقبة عملت كذلك لسنوات خلت على إقامة الحفريّات السياسية والإدارية تحت السلطة الفلسطينية لتفتيتها.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية الهمجية بعنوان حملة “السيوف الحديدية” على قطاع غزة، تواجه السلطة الفلسطينية مجموعة تحدّيات تجعلها في عين العاصفة، لتغدو كأنّها تمشي على حدّ السيف
عام 2018، أقرّ الكنيست الإسرائيلي قانوناً يبيح للحكومة اقتطاع نسبة من أموال المقاصّة الفلسطينية بتهمة “تمويل الإرهاب”. والمقصود بذلك الأموال التي تحوّلها الأخيرة إلى قطاع غزة. صحيح أنّ حماس تفرّدت بحكم القطاع، وأنشأت حكومتها الخاصة فيه منذ عام 2007، إلا أنّ السلطة الفلسطينية استمرّت في تسديد رواتب الإداريين وعناصر الشرطة هناك، وكذلك مخصّصات لعوائل الشهداء والجرحى. .وهذه الرواتب هي حجّة القانون الإسرائيلي في 2018.
أبو مازن يحمي 80 ألف عائلة في غزّة
في هذا الإطار يبيّن المؤرّخ الفلسطيني صقر أبو فخر أنّ السلطة الفلسطينية “تدفع بانتظام رواتب نحو 80 ألف موظف في قطاع غزة، أي 80 ألف عائلة”، وأنّ “مجموع إنفاقها في غزة بلغ قرابة 140 مليون دولار شهرياً”.
مطلع تشرين الثاني الماضي، وبعد تعنّت كبير، وافق وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرّف بتسلئيل سموتريتش على تحويل أموال المقاصّة إلى السلطة الفلسطينية، إنّما بعد حسم نحو 156 مليون دولار، قدّر أنّها “حصّة غزة”. بيد أنّ وزارة المالية الفلسطينية، وبناء على قرار من القيادة، رفضت الخطوة العدوانية وغير القانونية، وردّت الحوالة المنقوصة.
هذا الموقف المسؤول والوطني للسلطة، نجم عنه بقاء الموظّفين والأجهزة الأمنيّة حتى الساعة بدون رواتب لمدّة 3 أشهر (تشرين الأول وتشرين الثاني وكانون الأول). استعاضت عن ذلك بالاتفاق مع البنوك في الضفة الغربية على منح الموظفين سِلَفاً بضمانتها توازي نصف راتب شهر فقط عن شهر تشرين الأول، ألحقته بنصف راتب عن شهر تشرين الثاني، بالطريقة نفسها.
وأموال المقاصّة هي إجمالي الإيرادات التي تجمعها إسرائيل نيابة عن السلطة الفلسطينية، وتحوّلها إليها بعملة الشيكل شهرياً بعد حسم عمولة لمصلحتها، بموجب “اتفاق باريس” عام 1994. وتشمل ضريبة الدخل وبعض الضرائب والرسوم الناشئة عن التجارة بين إسرائيل وغزة والضفة الغربية.
تشكّل أموال المقاصّة حسب تقرير لـ”سي إن إن” الاقتصادية، بالاستناد إلى أرقام وزارة المالية الفلسطينية، نحو ثلثي إيرادات الموازنة. فيما الثلث الباقي يتأتّى من إيرادات محلّية من الحركة التجارية في الضفة الغربية، التي تهاوت هي الأخرى بفعل الحرب. واستمرار هذا الوضع يهدّد بتفكّك السلطة الفلسطينية.
مع حظر حكومة الحرب “الكابينيت” لعمل الفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي، غدا نحو 109 آلاف شخص من الضفة الغربية وحدها كانوا يعملون بموجب تصاريح عمل، بالإضافة إلى بضعة آلاف آخرين بدون أذونات، عاطلين عن العمل، وهو ما يزيد من حجم الضغوط على اقتصاد السلطة الفلسطينية، وعلى الاقتصاد الإسرائيلي الذي يواجه أزمة حادّة على صعيد العمالة.
على الرغم من أنّ كبار المسؤولين في وزارة الدفاع الإسرائيلية أوصوا بتحويل أموال المقاصّة بالكامل، واستئناف منح أبناء الضفة الغربية تصاريح العمل، استجابة لضغوط الإدارة الأميركية، خوفاً من انفجار الأوضاع في الضفة، وللحؤول دون انهيار السلطة الفلسطينية، إلا أنّ وزراء اليمين المتطرّف رفضوا ذلك بإصرار، ولا سيما سموتريتش الذي لوّح بالاستقالة، حيث يسعى اليمين الإسرائيلي إلى استغلال الفرصة من أجل القضاء على السلطة، والتمهيد لدفن القضية الفلسطينية.
يبيّن المؤرّخ الفلسطيني صقر أبو فخر أنّ السلطة الفلسطينية “تدفع بانتظام رواتب نحو 80 ألف موظف في قطاع غزة، أي 80 ألف عائلة”، وأنّ “مجموع إنفاقها في غزة بلغ قرابة 140 مليون دولار شهرياً”
ضغط الداخل: انهيار شعبية فتح
أمّا على صعيد الداخل، فإنّ السلطة الفلسطينية تواجه تهديداً حقيقياً. إذ تشير استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسّسات معروفة مثل “مركز العالم العربي للبحوث والتنمية” (أوراد)، و”معهد واشنطن”، و”المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” ومقرّه رام الله، إلى انهيار حادّ في شعبية السلطة في الضفة الغربية، مقابل ارتفاع هائل في شعبية حركة حماس.
إذا كان للسلطة خطاياها، فإنّ الهجوم السياسي المركّز والمستمرّ من أجهزة الدعاية الإيرانية أسهم أيّما إسهام في تهشيم صورة السلطة، وبخاصة حركة فتح، عمودها الفقري، من خلال التخوين الدائم والاتّهام بالعمالة لأميركا وإسرائيل، والعمل على تقديم الرئيس محمود عباس أبي مازن للجمهورين الفلسطيني والعربي بصورة الفاشل والعاجز وبأنّه “كعب أخيل الفلسطينيّ”.
تلاقى هذا الخطاب السياسي مع أهواء وأمزجة إسلامية وحمساوية، ونجح في حجب الأضواء عن الصعوبات الماليّة التي تواجهها السلطة، وعن المواقف المهمّة التي تبنّتها، وجعلها تظهر بصورة العاجزة أو الهرمة.
يذكّر المؤرّخ صقر أبو فخر في واحدة من مقالاته، بأنّ السلطة الفلسطينية “رفضت الرضوخ لطلبات الإذعان الأميركية، مثل إدانة عملية طوفان الأقصى، ووقف صرف رواتب أسر الشهداء والجرحى في غزّة، والتوقّف عن دعم المقاومة الشعبية وتشجيع المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية، والامتناع عن تدويل القضية الفلسطينية واللجوء إلى المحاكم الدولية”. والبند الأخير يزعج إسرائيل بشدّة، لأنّها تعتبره مدخلاً نحو تقويض صدقية روايتها لدى الرأي العامّ الغربي.
إذا كان الكثير من الناس لا يقيم وزناً لأهمية الموقف، ويهزأ من الإدانة اللفظية، فإنّ عدم إدانة رئيس السلطة محمود عباس لعملية طوفان الأقصى جعله عرضة لضغوط أوروبية هائلة. ووصل الحال ببعضها إلى التلويح بتوقيف أو مراجعة برامج المساعدات، بعدما اكتفى أبو مازن بإدانة قتل المدنيين فقط، الأمر الذي فُسّر أوروبياً بأنّه يمنح عملية حماس مشروعية فلسطينية. حتى إنّه تعرّض لمحاكمة مع وقف التنفيذ أمام القضاء الألماني على خلفية اتّهامه لإسرائيل، إبّان زيارته لبرلين في آب 2022، بارتكاب 50 محرقة “هولوكوست” بحقّ الفلسطينيين.
محاكمة القضيّة الفلسطينيّة
في 11 كانون الأول الجاري، أعلن المدّعي العام الألماني أنّ تصريحات عباس “تشكّل انتهاكاً واضحاً للقانون الألماني، لكنّه كممثّل لمناطق الحكم الذاتي الفلسطينية فهو يتمتّع بالحصانة الدبلوماسية، الأمر الذي يحول دون مقاضاته”، حسب موقع “دوتشيه فيليه”. تلك المحاكمة لم تكن بحقّ أبي مازن بقدر ما كانت محاكمة للقضية برمّتها.
هذا ما حرص مكتب المدّعي العام على تبيانه بجلاء من خلال الإشارة الى أنّ “وضع الشعب الفلسطيني منذ تأسيس دولة إسرائيل لا يمكن حتى مقارنته بوضع الشعب اليهودي في أوروبا في ظلّ حكم الحزب الاشتراكي الوطني (النازي)”.
إقرأ أيضاً: فلسطين 2024: تصحيح التاريخ أو العودة إلى ما قبل التاريخ! (2)
في الوقت نفسه، فإنّها تعكس حجم الضغوط الأوروبية والغربية لانتزاع إدانة الشرعية الفلسطينية الرسمية لعملية “طوفان الأقصى”، على نسق الضغوط التي وضعها الإعلام الغربي على كلّ ضيف عربي بسؤاله مباشرة: هل تدين عملية حماس؟
بالتالي، فإنّ المحاكمات التي تجري كلّ يوم للسلطة الفلسطينية، سواء عبر وسائل الإعلام، أم شبكات التواصل الاجتماعي، فيها الكثير من الجور والإجحاف والقفز فوق الحقائق.
لذا يبدو مقترح تسليم حكم غزة للسلطة الفلسطينية، بعد إدخال حركتَي حماس والجهاد إلى منظمة التحرير، وفق المشروع العربي الذي تقوده السعودية بهدوء بعيداً عن الشعبويات، هو الحلّ الأكثر معقولية. ومن هذا المشروع خرج أخيراً المقترح المصري بحكومة تكنوقراط تمهّد للتوافق الفلسطيني. ذلك أنّ السلطة الفلسطينية لا تزال تمثّل الشرعية التاريخية، وانهيارها لا يخدم “القضية الفلسطينية”، بل على العكس تماماً، هو هدف إسرائيلي واضح.