وجود القوات الأميركية في العراق تحوّل إلى مشكلة عراقية. وانسحابها منه قد يمثّل مشكلة أكبر. العراق الذي كان يملك قبل الغزو، واحداً من أكبر الجيوش في المنطقة وأكثرها تدريباً وتسلّحاً، سقط نظامه لأسباب باتت معروفة، لكن ما لا يمكن فهمه حتى الآن لماذا أمر الحاكم العسكري الأميركي بول بريمر بحلّ الجيش العراقي وتسريحه (إلا اذا كان الأمر مؤامرة مبيّتة)؟
منذ عشرين سنة فشلت السلطات الجديدة (أو جرى إفشالها) في بناء جيش جديد يحمي الوطن وسيادته، وتمسّكت الحكومات التي تعاقبت على السلطة في بغداد منذ 2003، ببقاء الجنود الأميركيين على أراضيها بذريعة الحاجة الماسّة إليهم في ظلّ الظروف الصعبة ولحمايتها من تنظيم “داعش” الذي لا يعرف أحد من صنعه؟ وكيف نشأ من فراغ كأنّه تنظيم “سحريّ” ظهر فجأة وسيطر على نصف العراق ونصف سوريا بقدرة قادر قبل أن يختفي بالطريقة ذاتها بعدما دمّر ما دمّر واستباح ما استباح؟!
انسحاب أميركا… وظهور داعش
في الفترة التي أعقبت الغزو كان الوجود الأميركي في العراق احتلالاً باعتراف مجلس الأمن في قراره الرقم 1483، لعام 2003. في تشرين الأول 2008 توصّلت الحكومتان العراقية والأميركية إلى اتفاق تعاون أمنيّ استراتيجي ينصّ على إكمال انسحاب القوات الأميركية من العراق نهاية 2011، وإبقاء عدد “محدود” من الجنود الأميركيين في قواعد عسكرية “محدودة”، لأغراض تدريب القوات العراقية وتقديم الدعم اللوجستي لها. بالفعل انسحبت القوات الأميركية في الموعد المحدّد ليلة رأس السنة. ثمّ فجأة ظهر “داعش”، الأمر الذي دفع بسلطات بغداد إلى طلب الدعم من القوات الأميركية التي سارعت بدورها إلى تلبية نداء “النجدة”، وكان إنشاء التحالف الدولي لمواجهة التنظيم “الإرهابي”.
المواجهة وصلت ذروتها بعد مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، بضربة جوّية أميركية قرب مطار بغداد، فجر 3 كانون الثاني 2020
هكذا فإنّ العمليات العسكرية البرّية والجوّية الأميركية في العراق ضدّ “داعش” لها أساس قانوني، عبر موافقة الحكومة العراقية على تلك العمليات. إضافة إلى دعم مجلس الأمن بموجب القرار الرقم 2249 لعام 2015، الذي دعا الدول إلى اتّخاذ جميع التدابير اللازمة “لمنع وقمع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها تنظيم داعش”. هكذا أصبح العراق طرفاً في هذا التحالف من دون أن تكون له القدرة على رفض شروطه، بسبب الوضع الصعب الذي كان يمرّ به.
حينذاك لم تواجه القوات الأميركية في العراق أيّة مشاكل مع الجهات السياسية-المسلّحة العراقية الموالية لإيران خلال الحرب على “داعش”، وشكّل “التعاون” الأميركي والإيراني حالة “مساكنة” و”توازن” و”تقاسم” انعكست على الحياة السياسية العراقية برمّتها. لكن بعدما قرّرت واشنطن الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وتشديد العقوبات على طهران، تصاعدت المواجهة بين الطرفين حتى صار العراق ساحة رئيسية لهذه المواجهة. وبدأت الفصائل المسلّحة المرتبطة بإيران تهدّد بشنّ ضربات ضدّ القوات الأميركية في العراق.
اغتيال سليماني… وقرار “طرد” أميركا
هذه المواجهة وصلت ذروتها بعد مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، بضربة جوّية أميركية قرب مطار بغداد، فجر 3 كانون الثاني 2020. بعد هذا الحادث بيومين أصدر مجلس النواب العراقي قراراً يلزم الحكومة بالبدء بمفاوضات لإخراج القوات الأميركية، بعد جلسة طارئة حضرها معظم النواب الشيعة وعدد قليل جداً من نواب العرب السُنّة، وغياب معظم النواب الأكراد.
كانت ساعة التصعيد مضبوطة على وقع تحرّكات العلاقة الإيرانية الأميركية. تهدأ عند التقارب وتشتدّ عند التباعد. إلا أنّ العدوان الإسرائيلي على غزة أشعل لعبة التفاوض بالنار بين الطرفين. قصف للمواقع الأميركية في العراق وسوريا يقابله ردّ أميركي بلغ ذروته بقتل القيادي في “حركة النجباء” الموالية للحرس الثوري. وهو ما أحدث صدعاً في محاولات حكومة “الإطار التنسيقي للقوى الشيعية” لإدارة حالة من التوازن على مستوى العلاقات الخارجية والتوازنات الداخلية، ووضع الحكومة ورئيسها محمد شياع السوداني بين فكّي كمّاشة، فمن جهة الفصائل المنضوية فيها والمطالبة بإنهاء مهمّة التحالف الدولي بقيادة الأميركي، ومن جهة أخرى العراقيون الحلفاء لواشنطن داخل الائتلاف الحاكم الذين يخشون التداعيات السلبية للخروج الأميركي من العراق. وهؤلاء يخشون سقوط العراق بالكامل في القبضة الإيرانية أو تجدّد الحرب الأهلية.
الحماسة الشديدة لحلفاء طهران لإخراج القوات الأميركية من البلاد، تواجهها معارضة سياسية واسعة. حيث إنّ كتلاً سياسية عدّة تتخوّف من إحكام طهران سطوتها على البلاد بشكل مطلق في حال انسحاب القوات الأميركية
السوداني… فوق الطاولة وتحتها
هنا راحت الحكومة تطلق المواقف خبط عشواء. من فوق الطاولة، تلوّح بإمكان تكرار سيناريو الانسحاب الأميركي عام 2011 عبر تشكيل لجنة لإنهاء مهمّة التحالف، ومن تحتها تقدّم للأميركي المعلومات الضرورية عن منفّذي الهجمات ضدّ مواقعه في بغداد وتتوعّدهم بالملاحقة.
لأميركا مصالح كبرى استراتيجية في العراق، أهمّها خشيتها من سقوط هذا البلد الغنيّ بالموارد بالكامل في القبضة الإيرانية بالكامل، وجعله ممرّاً لحليفَيها الروسي والصيني، وحاجتها الماسّة إلى استمرار تدفّق النفط العراقي في الأسواق العالمية.
في أيّ حال، فإنّ الإدارة الأميركية الحالية العازمة على تعزيز وجودها في المنطقة بدليل إنشاء تحالف عسكري جديد في مواجهة جماعة الحوثي في اليمن، لا يبدو أنّ لديها الرغبة في الانسحاب العسكري من العراق، باعتباره إحدى أوراق الضغط على إيران ربطاً بمفاوضات فيينا، خصوصاً أنّ هناك رغبة أميركية أيضاً في تقويض التمدّد الإيراني في المنطقة كأحد استحقاقات عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي.
لكن إذا افترضنا جدلاً أنّ الأميركي قرّر المغادرة مثلما فعل في أفغانستان، فإنّ العواقب ستحدّدها الآليّة التي يتمّ بها تحقيق هذا الانسحاب. ففي حال خرجت واشنطن باتفاق سياسي كما حصل عام 2011، ربّما يبقى التمثيل الدبلوماسي. أمّا إذا أُخرجت بطريقة عدوانية ومن دون اتفاق، فردّ واشنطن لن يراعي وضع الحكومة العراقية وقد يقود إلى إنهاء وجود السفارة والدعم الدولي والشرعية التي تحظى بها حكومة بغداد. وهو ما سيزيد من حجم الاستياء الشعبي نتيجة الإخفاق في الجوانب الأمنيّة والخدمية والاقتصادية.
نسخة جديدة من داعش؟
قد تذهب واشنطن إلى ما هو أبعد من ذلك عبر دفع العراق إلى خيارات صعبة ومرعبة مثل غضّ الطرف عن إطلاق نسخة جديدة من “داعش” في محاولة لإعادة إقناع العراقيين بأنّ وجود قوّاتها هو ضرورة لحمايتهم وإبقاء التوازنات في بلدهم، خصوصاً أنّ القوات المسلّحة العراقية لا تملك سلاحاً للجوّ يعتدّ به، وغير قادرة على مراقبة الحدود الواسعة للبلد. أو ربّما يخرج علينا سيناريو دفع العراق نحو التجزئة والتقسيم مع احتمال نقل قواعد أميركا العسكرية إلى إقليم كردستان من أجل تغيير قواعد اللعبة العراقية عبر تشجيع الأكراد على الاستقلال. كما قد تفعل الأمر نفسه مع السنّة العرب في الأنبار والغرب عبر التشجيع على إقامة إقليم حكم ذاتي لهم.
حكومة إقليم كردستان لن تقبل بالانسحاب، نظراً لطبيعة العلاقات المميّزة بين الطرفين. ذلك أنّ بقاء القوات الأميركية في الإقليم مهمّ جداً، خصوصاً إذا ما قرّرت واشنطن تأييد استقلاله يوماً ما
ربّما بعض القوى الموالية لإيران وجدت بعد الفوز الذي حقّقته في الانتخابات المحلية أنّ الفرصة باتت مؤاتية للانقضاض الكامل على السلطة في العراق وإسقاط آخر العقبات في طريق الهيمنة الإيرانية المطلقة… لكن على الأرجح أنّ طهران نفسها لا ترغب حالياً في دفع العراق نحو التماهي معها بشكل صريح، لأنّها تدرك أنّ التداعيات ستكون وخيمة عليها. ذلك أنّ العراق بات يمثّل الرئة التي تتنفّس منها اقتصادياً. وتحظى بغداد باستثناء أميركي مؤقّت من العقوبات الأميركية في ما يتعلّق بوارداتها من الغاز والكهرباء الإيرانيَّين. وهذا يعني أنّ العراق سيغرق في الظلام وإيران ستخسر موردها الرئيس من العملات الصعبة.
السّنّة والشيعة والأكراد يرفضون
الحماسة الشديدة لحلفاء طهران لإخراج القوات الأميركية من البلاد، تواجهها معارضة سياسية واسعة. حيث إنّ كتلاً سياسية عدّة تتخوّف من إحكام طهران سطوتها على البلاد بشكل مطلق في حال انسحاب القوات الأميركية:
– حكومة إقليم كردستان لن تقبل بالانسحاب، نظراً لطبيعة العلاقات المميّزة بين الطرفين. ذلك أنّ بقاء القوات الأميركية في الإقليم مهمّ جداً، خصوصاً إذا ما قرّرت واشنطن تأييد استقلاله يوماً ما.
– أمّا العرب السُنّة، فبعدما كانوا أكثر مكوّنات الشعب العراقي رفضاً للوجود الأميركي بعد الغزو، وشهدت مناطقهم أعنف العمليات المسلّحة التي استهدفت قوات الاحتلال، باتوا الآن لا يحبّذون انسحاب الأميركيين اعتقاداً منهم أنّ ذلك سيجعلهم ومناطقهم مكشوفين أمام تهديدين: بقايا “داعش”، والفصائل المدعومة من إيران.
– إذا كان الخوف من التبعية الإيرانية قويّاً بين السنّة والأكراد والمسيحيين والتركمان، إلا أنّه أيضاً بدأ يظهر بين أنحاء المكوّن الشيعي، الذي دعمت شرائح واسعة منه الاحتجاجات الشعبية المطالبة بخروج العراق من السيطرة الإيرانية.
إقرأ أيضاً: ليست بغداد بل هي مدينة أخرى
الأرجح أنّ ارتفاع الأصوات المطالبة بخروج الأميركيين من البلاد لا يعدو كونه محاولات دعائية من فصائل في الحشد موالية لطهران. وربّما الجزء الأكبر ممّا يجري في العراق يدخل ضمن مساحة “الكسب والترويج السياسي”. إذ إنّ الفصائل الكبرى في الحشد تنأى بنفسها عن عمليات استهداف الأميركيين وتكتفي بإطلاق الشعارات السياسية. فالحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 كانت تميل دائماً إلى التعامل مع واشنطن وتتجاهل النداءات المناوئة للوجود الأميركي خشية الإضرار بمصالحها التي لولا الغزو الأميركي للعراق لما كان لها وجود أصلاً.