المزاج السنّيّ عام 2023: من “ظلّ الله” إلى “آيات الله”

مدة القراءة 7 د


في السنوات الأخيرة، راج كثيراً في الأوساط الشعبية السنّية، وإلى حدّ ما النخبوية، مصطلح “المظلوميّة السنّية”. المصطلح ليس جديداً، بل بدأ التداول به عقب التسوية الرئاسية خريف عام 2016.

تراكم الانتصارات الإلهية للحزب، والنزق العونيّ للانتقام من “الحريرية الوطنية” بمفعول رجعي، أسهما في تعزيز هذا المزاج، الذي تعمّق أكثر عقب اندلاع انتفاضة 17 تشرين 2019، وآثارها التي صدّعت أركان النظام اللبناني، وأخرجت الرئيس سعد الحريري من الساحة السياسية.

كاسر الصدمات..

كلّ هذه التراكمات، بدءاً من اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، مروراً باجتياح بيروت في 7 أيار 2008، ثمّ انهيار الثورة السورية بين 2011 و2016، أفضت إلى الشعور بالاستهداف، وإلى جعل الطبقة الشعبية السنّية كتلة عاطفية أقرب إلى القنبلة التي تبحث عن مكان للانفجار حبّاً وتأييداً، أو غضباً وذمّاً. وطفقت تدور بحثاً عن انتصار في أقاصي العالم، ولا فرق إن كان سياسياً أم رياضياً. فتارة وجدت ضالّتها في الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، واليوم تتمسّك بـ”أبي عبيدة”.

في السنوات الأخيرة، راج كثيراً في الأوساط الشعبية السنّية، وإلى حدّ ما النخبوية، مصطلح “المظلوميّة السنّية”. المصطلح ليس جديداً، بل بدأ التداول به عقب التسوية الرئاسية خريف عام 2016

عملياً كان الرئيس سعد الحريري يلعب دور “كاسر الصدمات”. فهو الوحيد الذي كان بإمكانه استيعاب هذا الجبل من العواطف المتراكمة، سلباً وإيجاباً. ذلك أنّ هذه الكتلة العاطفية كانت تصبّ عليه جامّ غضبها عقب كلّ تسوية، وتضيفها إلى سجلّ تنازلاته الثقيلة الوطأة، مع وجود فئة تبرّر له، وجمهوره الذي ما فتئ يدافع عنه “ظالماً ومظلوماً”.

عندما يختلّ التوازن بين العقل والقلب، يصبح الإنسان راديكاليّاً في عاطفته، سواء كانت كراهية أم حبّاً. هذه الراديكالية قوّضت من قدرة النخب، وخاصة السياسية، على استيعاب هذه العاطفة. فآثر أغلبها الانسحاب جانباً خلال لحظات الذروة. فيما حاول بعضها التماهي مع التقلّبات العاطفية كي لا تصبح وبالاً عليها، وعلى مكانتها المهزوزة أساساً.

بالمجمل فإنّ عام 2023 كان عاماً عاطفياً بامتياز عند السنّة، حيث كان نصفها تركيّاً، وشهورها الثلاث الأخيرة فلسطينية حمساوية، وبينهما ومضات رياضية، وكاد زنبرك ساعة هاربة من الخواء السياسي اللبناني أن يشعل فتيل فتنة سنّية – مسيحية.

من ظلّ الله..

على مدخل “الباب العالي” في إسطنبول، والذي كان لعقود طويلة أحد أبرز المقرّات السياسية في العالم، نُقشت لوحة في عهد السلطان محمد الفاتح تقول إنّ السلطان هو “ظلّ الله على الأرض”، وذلك بغية إضافة هالة من القداسة على السلطان.

على الرغم من أنّ هذا التعبير كان محلّ جدل واسع بين طبقة رجال الدين والباحثين السنّة المعاصرين، إلا أنّه بقي فاعلاً سياسياً وثقافياً حتى بعد اندثار السلطنة والخلافة، ولا سيما في عهد حزب العدالة والتنمية، حيث جرى تلقيب الرئيس التركي إردوغان بـ”السلطان”، وقيادات حزبه بـ”العثمانيين الجدد”. لذا صار السنّة يرقبون الانتصارات المتتالية للسلطان الجديد ويعدّونها بدلاً عن ضائع بالنسبة إليهم.

ما كاد عام 2023 يهلّ هلاله حتى ضرب جنوب تركيا في شباط زلزال هائل امتدّ حتى سوريا ودول الجوار، فانفجرت العاطفة السنّية، وتجاوزت الإطار الإنساني لتكتسي بطابع سياسي، حيث تطوّع العديد من الشبّان اللبنانيين السنّة وذهبوا من تلقاء أنفسهم للمساهمة في أعمال الإغاثة. إضافة إلى النشاط الكبير للجمعيات المدنية والدينية بالذات، والمبادرات الفردية لسيّدات ورجال جمعوا ما تيسّر من الثياب والبطاطين وغيرها، وعملوا على إيصالها أحياناً بأنفسهم إلى المنكوبين.

هذه الهبّة السنّية التي لم نرَ مثيلاً لها في زلزال المغرب وفيضان ليبيا، كانت في بعض أطوارها ردّاً على حملة الحزب السياسية ذات الطابع العاطفي من أجل إرغام الدولة اللبنانية والنخب السياسية على الانفتاح على دمشق.

عملياً كان الرئيس سعد الحريري يلعب دور “كاسر الصدمات”. فهو الوحيد الذي كان بإمكانه استيعاب هذا الجبل من العواطف المتراكمة، سلباً وإيجاباً

ما كادت صفحة الزلزال تُطوى، حتى عادت العاطفة السنّية وانفجرت في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا، التي لاقت في بعض الأوساط الشعبية السنّية اهتماماً فاق بدرجات الاهتمام بالانتخابات النيابية في وطنها.

بين صورة إردوغان مع الرئيس الحريري، وفيديوهاته في مسجد “آيا صوفيا”، وصور شخصية للبعض في مساجد تركيا التاريخية وآثارها الأخرى، انفجرت العاطفة السنّية التي ترى إردوغان “ظلّ الله على الأرض” و”محيي الإسلام” في عوالم السياسة. لذا كان فوزه في الانتخابات الأخيرة بمنزلة “نصر مبين” في وجه الغرب، وإيران، ونظام الأسد، وفي مواجهة “موجة الإلحاد” التي يعتبر المتديّنون أنّها “تحاول النفاذ إلى المجتمعات الإسلامية المحافظة”، وفق ما جرى تناقله حينها.

.. إلى آيات الله

في مكان ما، استخدم سنّة لبنان الانتصار الإردوغاني الجديد في السياق المحلّي لمعايرة المسيحيين بالذات، بعد “موقعة الساعة”، (حين اتّفق الرئيسان نبيه بري وميقاتي على تغيير عقارب الساعة، وتراجعا تحت الضغط الشعبي والسياسي المسيحي)، موقعة أشعرت السنّة بجرح في كبريائهم، وذلك انطلاقاً من المشاعر المسيحية الباردة للغالبية، والعدائية للبعض.

في الواقع، مثّلت المشاحنات التي حصلت في العوالم الافتراضية على هامش تلك الموقعة، التعبير الأمثل عن كمّ الشحن العاطفي للسنّة، وعن مدى خطورة تلك المشاعر حينما تتحوّل إلى قنبلة موقوتة تبحث عن مكان للانفجار، علماً أنّ هذا الانفجار العاطفي المحدود تجاهل التهشيم المستمرّ لموقع رئاسة الحكومة، وتحوّله إلى صندوقة بريد لرسائل مارونية – شيعية.

إذا كان الصيف بحرارته اللاهبة التي حطّمت الأرقام القياسية جمّد مفاعيل القنبلة العاطفية، التي اقتصرت على بعض هبّات رياضية تباهي بانتصارات النادي الرياضي في كرة السلّة، فإنّ عملية “طوفان الأقصى”، في 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023)، أفضت إلى “طوفان عاطفيّ” سنّيّ.

حطّم هذا الطوفان كلّ المرتكزات العاطفية السابقة، وأطاح بالحنين إلى الحريري، وبإردوغان الذي لم يعد “ظلّ الله” و”محيي الشريعة الإسلامية” في تحديثات الخطاب الشعبي السنّي، حيث تربّع مجاهدو حماس على عرش الأفئدة السنّية، وتصدّروا خطب أئمة المساجد.

هذا ما أفضى بدوره إلى تحوُّل كبير يتمثّل بربط النزاع المعنوي مع الحزب على أجنحة حماس، وإلى حدّ ما الجماعة الإسلامية، وهما اللتان كانتا قبل ذلك تحاذران كشف ذهابهما بعيداً في التحالف مع “محور المقاومة” خوفاً من أن تنفجر القنبلة العاطفية فيهما.

إقرأ أيضاً: “السيّد” يعلن “أرباح لبنان”… من “وحدة الساحات”

مع استحضار أحاديث نبوية معيّنة وتأويل بعض الآيات القرآنية بما يتّفق مع التوجّه الجهادي، وبراعة الذراع الإعلامية المعاونة لحماس في تسويق الأيديولوجية الإسلامية عبر كتيبة الحفاظ (أي حفظة القرآن الكريم)، صار مجاهدو كتائب القسام “آيات الله” التي تصون شرف الأمّة. وصارت أسماء يحيى السنوار، ومحمد الضيف، وصالح العاروري متداولة بكثافة هائلة حتى لدى الأطفال. وإن كان الأبرز طبعاً أبا عبيدة الذي فاقت شهرته من يحمل اسمه، حتى إنّه اقتحم بعض المناهج الدراسية.

غير أنّ التحوّل الأسوأ على الإطلاق يتمثّل في الغسيل الأيديولوجي لسمعة عصابة الحوثيين في اليمن، وإكساب مقاتليها صفة “المجاهدين”، وهي التي لم تتورّع عن قصف الكعبة المشرّفة قبل سنوات، وكذلك الحال بالنسبة لعصابات المخدّرات على الحدود السورية – الأردنية.

مواضيع ذات صلة

الجماعة الإسلامية: انقلاب يقوده الأيّوبيّ ومشعل

إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في “الجماعة الإسلامية”، فعليك أن تعرف ماذا يجري في حركة حماس،  وعلاقة الفرع اللبناني بالتحوّلات التي تشهدها حركة حماس……

لا تعهّد إسرائيليّاً بالانسحاب

قابل مسؤولون إسرائيليون الشكاوى اللبنانية من الخروقات المتمادية لقرار وقف إطلاق النار، بسرديّة مُضلّلة حول “الانتشار البطيء للجيش اللبناني في جنوب الليطاني، بشكل مغاير لما…

هل يستبدِل برّي حليفه فرنجيّة بأزعور؟

يدور الاستحقاق الرئاسي في حلقة مُفرغة، أحد أبرز عناصر كَسرِها التوصّل داخلياً إلى تسوية تَمنع الثنائي الشيعي من أن يكون في جلسة التاسع من كانون…

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…