هل هو تقويض السودان القديم لبناء سودان جديد على أنقاضه؟ وما شكل هذا السودان المراد إنشاؤه على دماء الأبرياء وأعراضهم وممتلكاتهم وكلّ ما يمتّ إلى الذاكرة الجمعيّة بصِلة؟
سؤال يدور ويجول ولا جواب عنه، فيما يشهد السودانيون على مختلف انتماءاتهم السياسية والعرقية، الغزوات البربرية التي تنال من البشر والحجر، من دون استثناء أيّ محرّم، ومع تجاوز كلّ مبادئ الدين والأخلاق، وبشهادة المنظمات الدولية والإقليمية، ووسائل الإعلام السوداني والغربي، ولجان المقاومة الشعبية التي أنشأها الحراك المناهض للنظام السابق عام 2013، وهي التي تناوئ الإسلاميين الذين حكموا البلاد منذ عام 1989، وتعارض حالياً تجييش الناس وتسليحهم ضدّ اعتداءات قوات الدعم السريع.
لقد انهارت حاميات الجيش السوداني في عدد من الولايات الرئيسية في الأشهر الأخيرة من العام الماضي، وآخرها في كانون الأول الفائت، في ولاية الجزيرة التي هي السلّة الغذائية للسودان، على نحوٍ متسارع ومن دون قتال تقريباً. مع أنّ الجيش السوداني من أعرق الجيوش الإفريقية، إذ تشكّلت نواته الأولى قبل قرن تقريباً، وذلك أمام ميليشيا من المرتزقة (الأبّالة) أو رعاة الإبل، والتي تشكّلت ابتداء قبل أكثر من عشرين سنة، في إقليم دارفور عام 2003، وبدعم من رئاسة الجمهورية، وإشراف من الاستخبارات العسكرية آنذاك.
انهيار الجيش الرسمي
فبدلاً من انهيار قوات الدعم السريع، تحت وطأة الغارات الجوّية المكثّفة بالطائرات القاصفة والمسيّرات، التي استهدفت معسكراتها حول الخرطوم وعلى جسورها فوق النيل، وفي مواقعها الاستراتيجية داخل المربّعات الأمنيّة والعسكرية في العاصمة، وفي طرق إمدادها من غرب السودان إلى قلبه، أُصيبت القوات العسكرية النظامية نفسها بالإنهاك والاستنزاف الشديدين جرّاء معارك الكرّ والفرّ، وحصار ثكنات الجيش وحامياته وضرب مستودعاته ومصانعه الحربية ومطاراته في الخرطوم وخارجها.
لجأت الحكومات السودانية المتعاقبة إلى القوات العسكرية الرديفة لمكافحة حركات التمرّد في الأطراف النائية، حتى أضحت تلك الميليشيات أكثر حضوراً من الجيش السوداني نفسه
الأخطر من ذلك، الهدم المنهجي لمقوّمات الدولة نفسها، من وزارات وإدارات متنوّعة، وكذلك ارتكازات المجتمع المدني وذاكرته التاريخية ومنجزاته الإبداعية، من جامعات ومتاحف ومعارض تشكيلية، والتي تعرّضت بدورها للنهب والحرق بما فيها من مخطوطات ودراسات وكتب وآثار ولوحات فنية. إضافة إلى تدمير المؤسسات والشركات والأسواق التجارية والمخازن الكبرى، ومصادرة مئات السيارات والشاحنات والجرّارات الزراعية من الجزيرة خاصة. تزامن هذا مع تهجير الملايين من منازلهم في العاصمة والمدن والقرى في ولايات دارفور والخرطوم والجزيرة وأطراف ولايات شمال كردفان وسنار، وفي أيّ مكان وصلت إليه قوافل “الدعم السريع”، وسط حملة شعواء لسرقة الأموال والمقتنيات والقتل والاعتداء. كلّ هذا وصولاً إلى اضطهاد المرأة خاصة بأشكال مختلفة، مثل الاغتصاب، والزواج القسري، واختطاف الفتيات والفتيان كغنائم حرب وبيعهم في دارفور كعبيد، كما كشف تقرير مثير لشبكة “سي إن إن“، في سيناريو إجرامي لا يقوم به إلا عدوّ خارجي يهدف إلى تقويض الدولة والمجتمع بشكل شبه كامل، تمهيداً لاحتلال الأرض وإحلال سكّان آخرين. وهو ما لا يمكن ولا ينبغي أن يتورّط فيه طرف سوداني مؤثّر وشريك أساسي في الفترة الانتقالية، هو نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”. هو الذي يزعم أنّه يريد إقامة دولة مدنية يسودها العدل والمساواة بين مكوّنات السودان وأعراقه وجهاته، بعيداً عن المؤسسة العسكرية التي حكمت البلاد بالانقلابات المتتالية منذ استقلالها عام 1956.
تحالف الثوّار مع الدعم السريع؟
الأكثر غرابة من هذه الغزوات التي بات السودانيون يشبّهونها بغزوة التتار لحاضرة الخلافة العباسية في بغداد عام 1258م، تملّق بعض وجوه قوى الحرّية والتغيير لقائد الدعم السريع، والمراهنة على قواته كنواة للجيش السوداني الجديد. وهو المتّهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، في كلّ الولايات التي دخلتها قواته. وهم الواجهة السياسية للثورة الشعبية العارمة (ثورة كانون الأول المجيدة) التي أسقطت نظام عمر البشير في 11 نيسان 2019.
فميليشيا “الجنجويد”، بقيادة الزعيم القبلي موسى هلال (ابن عمّ حميدتي)، وهو زعيم عشيرة أمّ جلول من قبيلة المحاميد المتفرّعة من قبيلة الرزيقات، ارتكبت الفظائع في إقليم دارفور بين عامَي 2003 و2005، ضدّ قبائل إفريقية، لا سيما منها المساليت، وذلك وفق تقارير المنظمات الدولية. وتحوّلت في آب 2013 إلى “قوات الدعم السريع” بقيادة حميدتي بعد استبعاد موسى هلال لخلاف مع البشير، وأضحت قوى تابعة رسمياً للنظام، تحت إشراف جهاز الأمن والمخابرات. وهي التي تولّت قمع تظاهرات الخرطوم في أيلول ذاك العام، احتجاجاً على قرار الحكومة رفع الدعم عن المحروقات.
اعتمدت حكومة الخرطوم بشكل متزايد على القوات شبه النظامية والميليشيات، لا سيما تلك التي تنتمي إلى القبائل العربية
وخلال اعتصام الثوار في حزيران 2019 أمام القيادة العامّة للقوات المسلّحة، أقدمت قوات حميدتي نفسها على فضّ الاعتصام بالقوة، فسقط عشرات القتلى ورُميت جثثٌ من الثوار المدنيين في نهر النيل. بل إنّ الصعود السريع لهذه الميليشيا في قلب النظام السابق وصولاً إلى تصدّر المشهد الانتقالي على حساب القوات النظامية، في نهاية 2023، بمعدّل نقلة نوعية كلّ عشر سنوات، لمّا يثير الاستغراب. لكنّ التحليل العسكري لمجريات المعارك بين طرفَي المكوّن العسكري في مجلس السيادة الانتقالي، والتكتيكات المعتمدة لدى الجيّاشة (قوات الجيش) والدعّامة (قوات الدعم السريع)، منذ نشوب الحرب المدمّرة بينهما في 15 نيسان العام الماضي، يرسم صورة إجمالية واضحة عمّا سبق من مواجهات غير تقليدية، وعمّا هو متوقّع في مآلات الحرب، وسيناريوهاتها المتعدّدة. بمعنى أنّه لا بدّ من تفحّص نقاط القوة والضعف لدى كلا المتحاربين، كي يكون ممكناً استشراف المستقبل السوداني. وذلك للإجابة على السؤال التالي: هل يكون المستقبل مشرقاً بتأسيس حقيقي لحكم مدني لا دور فيه للعسكر في بلد لم يحكمه المدنيون إلا لماماً، منذ الاستقلال؟ أم يغوص في صوملة طويلة الأمد تعود بالسودان إلى ما قبل الدولة المركزية الموحّدة؟
جيش محترف وميليشيات كثيرة
لا توجد إحصائية دقيقة عن عديد الجيش السوداني، باعتبار أنّه يستند تاريخياً إلى قوات أخرى غير نظامية. وعلى هذا، تراوح أعداده، لا سيما بعد ما سُمّي بـ “ثورة الإنقاذ الوطني” في حزيران 1989، ما بين 100 ألف و150 ألفاً، عندما تضاعف الحجم.
ومن ثمانينيات القرن الماضي، لجأت الحكومات السودانية المتعاقبة إلى القوات العسكرية الرديفة لمكافحة حركات التمرّد في الأطراف النائية، حتى أضحت تلك الميليشيات أكثر حضوراً من الجيش السوداني نفسه، من ضمن استراتيجية “رخيصة” بالمعنيين المالي والأخلاقي، لمكافحة التمرّد. إذ تتغذّى هذه الميليشيات من الغنائم التي تجمعها في مسارح الحرب، لذا هي أقلّ كلفة بالنسبة للحكومة من استخدام فرق الجيش النظامي.
لكن مع الوقت، برهن هذا الأسلوب على تضخّم مضارّه على المدى البعيد على الرغم من فوائده القصيرة المدى. فقادة الميليشيات لا يتوقّفون عن المطالبة بالمزيد من المكافآت والامتيازات لقاء خدماتهم للدولة المركزية. وفضلاً عن انتهاكاتها وارتكاباتها التي وثّقتها المنظمات غير الحكومية وكذلك المؤسّسات الدولية، فإنّها متقلّبة في ولاءاتها، وتتناحر مع التشكيلات العسكرية النظامية وغير النظامية. بل هي تقاتل المدنيين أكثر من المتمرّدين المسلّحين، وتستهدف الحاضنة الشعبية لحركات التمرّد. وهو ما يؤدّي بطبيعة الحال إلى وقوع ارتكابات. وذلك كما جاء في تقرير الأسلحة الصغيرة Small Arms Survey عدد 27 الصادر عن منظمة HSBA، في نيسان 2017.
اعتمدت حكومة الخرطوم بشكل متزايد على القوات شبه النظامية والميليشيات، لا سيما تلك التي تنتمي إلى القبائل العربية في دارفور وكردفان، التي تتداخل مع القبائل القاطنة في الدول المجاورة، لقتال حركات التمرّد في أطراف السودان.
يعود تاريخ تلك الميليشيات إلى الحرب الأهلية الثانية عام 1983 بين الشمال والجنوب. وتوسّع الاعتماد عليها في الحقبة الديمقراطية القصيرة (1987-1989) أثناء حكومة الصادق المهدي (توفّي عام 2020)، عندما جُنّد أفراد من (البقّارة) رعاة البقر، من قبيلتي الرزيقات والمسيرية، للقتال ضدّ المتمرّدين في جبال النوبة وجنوب السودان. وعندما استولت الحركة الإسلامية بزعامة حسن الترابي على السلطة عبر انقلاب عمر البشير عام 1989، تحوّلت هذه الميليشيات القبلية إلى وحدات جهادية ملحقة بالجيش تحت اسم “قوات الدفاع الشعبي”. وكان لهذه الوحدات دور أساسي في هزيمة التمرّد الجنوبي في حزيران 1992، قبل أن يلتقط أنفاسه ويهزم الجيش السوداني في حرب العصابات، وصولاً إلى الانفصال عن الشمال عام 2011.
انقلاب حميدتي وأشقّائه
مع أنّ البشير منح حميدتي رتبة عسكرية لا يستحقّها، لأنّه لم يكمل تعليمه، ولم يخضع لتكوين عسكري، إلا أنّه انقلب عليه، متحالفاً مع عبد الفتاح البرهان. وعلى الرغم من أنّ البرهان رقّى حميدتي من فريق إلى فريق أول، بعد يومين من خلع البشير، أي في 13 نيسان 2019، وشاركه في الانقلاب على المسار الانتقالي في 25 تشرين الأول 2021، إلا أنّه انقلب على البرهان، وتبرّأ من الانقلاب، وزعم أنّه يؤيّد نقل السلطة إلى المدنيين، فسارع جناح من قوى الحرّية والتغيير إلى المراهنة عليه.
أمّا السؤال الذي لا يزال يُطرح حتى اللحظة: من أطلق الرصاصة الأولى في حرب الجيشين؟ فهو من باب التضليل. لأنّ قوات الدعم السريع كانت متمركزة داخل المربّع العسكري والأمني في الخرطوم، وفي المواقع الاستراتيجية التي تحيط بالعاصمة من خلال معسكرات مخصّصة لها، وباعتبار أنّ دورها هو حماية النظام، فإذا بها تزيد من عدد أفرادها حتى بات يناهز عديد الجيش السوداني نفسه، وانتشرت بشكل مفاجئ في قاعدة مروي في شمال العاصمة. في حين أنّها تتحكّم بمطار الخرطوم الدولي، لتعطيل نقطة القوة الأساسية للجيش وهي الطيران الحربي. وفي الوقت نفسه، رفض حميدتي دمج قوات الدعم السريع بالجيش خلال سنتين، وطالب بتوسيع المهلة إلى عشر سنوات.
عندما اندلعت الاشتباكات في الخرطوم ومروي بشكل متزامن، تمكّنت قوات الدعم السريع من تطويق القيادة العامة للقوات المسلّحة، وتغلغلت في أحياء العاصمة المثلّثة المكوّنة من الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، حتى اضطر البرهان إلى الخروج من العاصمة ونقل العاصمة الإدارية مؤقّتاً إلى بورتسودان، في آب الماضي.
إقرأ أيضاً: حرب السودان: ميليشيات تواجه الدولة والجيش
بعد ذلك، تسارعت سلسلة الانهيارات. وليس هذا بجهد حميدتي وذكائه منفرداً، بل هو يتقوّى بأشقّائه، عبد الرحيم الذي سيطر على معظم إقليم دارفور، وأحمد الذي يتولّى الجانب الإعلامي، ومن ورائه عشيرته وقبيلته. بمعنى أنّه يحظى بعصبية قويّة، تحفّزها الغنائم وتدفعها الرغبة بالسيطرة على البلاد. لكنّ هذا الجموح أثار مخاوف السودانيين على سلامتهم وأعراضهم مع انهيار الجيش والدولة، وأفسح المجال مجدّداً للتيار الإسلامي كي ينفخ روح القتال في الولايات التي لم تسقط بعد دفاعاً عن النفس، بتشكيل ما يُسمّى “كتائب المستنفَرين”. وههنا تتكرّر حالة أفغانستان. أو تكاد، فانتشار الفوضى في قندهار وباقي المدن عقب انسحاب السوفيت عام 1988، وسقوط الحكومة الشيوعية عام 1992، والتحارب بين فصائل المجاهدين آنذاك، صنعت الظروف لحركة الطلاب الدينيين، التي عُرفت لاحقاً باسم “طالبان”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@