أوجدت حرب غزّة تعقيدات لا سابق لها في المنطقة كلّها، بما في ذلك البحر الأحمر. ضربت الولايات المتحدة وبريطانيا الحوثيين ردّاً على الهجمات التي شنّها هؤلاء على السفن التي تمرّ من باب المندب في طريقها إلى قناة السويس أو ميناء إيلات الإسرائيلي أو العقبة الأردني وموانئ أخرى على جانبي ذلك البحر. ما الذي سيحصل في اليوم التالي للضربة الأميركية – البريطانيّة؟ الجواب أنّ الحوثيين لن يرتدعوا في غياب قرار إيراني بذلك.
بعيداً عن اللفّ والدوران، لا مكان آخر لغير التصعيد في البحر الأحمر وغير البحر الأحمر كون إيران عاجزة عن الحصول على اعتراف أميركي بأنّها القوة المهيمنة في الشرق الأوسط والخليج. مثل هذا الاعتراف مستحيل لألف سبب وسبب. في مقدّم هذه الأسباب أنّ إدارة جو بايدن لا تستطيع، لأسباب داخليّة أميركيّة أوّلاً، تلبية المطالب التي تقدّمت بها “الجمهوريّة الإسلاميّة” في المفاوضات التي دارت بين الجانبين في مسقط، وهي مفاوضات يبدو أنّها توقّفت أخيراً.
في الواقع، ليس ما ارتكبه الحوثيون بمهاجمتهم سفناً في البحر الأحمر سوى تعبير عن رغبة إيران في إظهار أنّ لديها أدواتها في المنطقة. تتذرّع “الجمهوريّة الإسلاميّة” بحرب غزة كي تظهر مدى قدرتها على استخدام هذه الأدوات أكان ذلك في اليمن أو العراق أو سوريا أو لبنان.
حسناً، وجّهت واشنطن ولندن رسالة إلى الحوثيين الذين يسمّون أنفسهم “جماعة أنصار الله”. لا شكّ أنّ تلك الرسالة في غاية الأهمّية، لكنّها لن تحقّق النتائج المرجوّة، خصوصاً أنّ مصير الشعب اليمني لا يهمّ إيران وأدواتها المحلّية. يبدو الحوثيون مستعدّين للتضحية باليمن كلّه وباليمنيّين جميعاً خدمة للأجندة الإيرانيّة والمشروع التوسّعي الإيراني. المسألة أكبر من الحوثيين. تتعلّق المسألة بما تريده إيران لا أكثر. ما دامت حرب غزّة مستمرّة وما دامت إسرائيل مصرّة على ممارسة الوحشية في تعاطيها مع الشعب الفلسطيني، لن تتردّد “الجمهوريّة الإسلامية” في السعي إلى الاستفادة من ذلك على الصعيد الإقليمي عبر تعزيز مواقعها في هذه المنطقة أو تلك.
لا مكان آخر لغير التصعيد في البحر الأحمر وغير البحر الأحمر كون إيران عاجزة عن الحصول على اعتراف أميركي بأنّها القوة المهيمنة في الشرق الأوسط والخليج
هناك مشكلة اسمها إيران وأخرى اسمها إسرائيل. باستثناء التدمير، ليس لدى إسرائيل أيّ فكرة عن اليوم التالي لتوقّف الحرب في غزّة. لا يمكن للتدمير وتهجير أهل غزّة وجعل القطاع غير قابل للحياة صنع سياسة. لا يمكن لذلك إلغاء وجود الشعب الفلسطيني.
فيما تراهن على اعتراف أميركي بدورها، المهيمن، أي على مستحيل… تراهن إسرائيل على مستحيل آخر هو إلغاء الشعب الفلسطيني. يستمرّ التدمير الممنهج لغزّة في وقت ثمّة معلومات أكيدة من واشنطن عن رفض إسرائيلي لأيّ بحث جدّي مع مسؤولي الإدارة الأميركيّة في وضع تصوّر لمستقبل القطاع في إطار خيار الدولتين. تكشف هذه المعلومات حال إفلاس إسرائيليّة على الصعيدين السياسي والأمني في ضوء العجز عن التعاطي مع النتائج المترتّبة على الهجوم الذي شنّته “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي تحت لافتة “طوفان الأقصى”. لكنّ المعلومات نفسها تكشف أيضاً وجود إدارة أميركيّة عاجزة عن التأثير في القرار الإسرائيلي على الرغم من أنّ الدولة العبريّة لا تستطيع متابعة حملتها العسكريّة على غزّة من دون السلاح الأميركي والقنابل والذخائر الآتية من مخازن الجيش الأميركي.
يعكس الوضع الذي تعاني منه غزّة إفلاساً إسرائيلياً وأميركياً في آن. لا يعني ذلك في الضرورة أنّ “حماس” انتصرت، خصوصا أنّ الحركة، التي تسيطر على غزّة من منتصف عام 2007، لا تعرف بدورها ما الذي عليها فعله في المرحلة المقبلة وهل يبقى شيء من القطاع كي تتحكّم به مجدّداً عبر “الإمارة الإسلاميّة” التي أقامتها والتي غيّرت طبيعة المجتمع الغزّيّ على نحو جذري، نحو الأسوأ طبعاً.
المخيف ما يحدث، في الوقت الذي تستمرّ فيه حرب غزّة، على جبهات أخرى بينها لبنان والعراق وسوريا واليمن حيث تحاول “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران الاستفادة قدر الإمكان من حرب غزّة ومن هاجس الإدارة الأميركية عدم توسيع الحرب وانتقالها إلى مكان آخر.
في ظلّ مأساة جنوب لبنان وفي ظلّ ما يحدث في اليمن والبحر الأحمر توسّعت حرب غزّة. تحوّل انتصار “حماس” في السابع من أكتوبر الماضي إلى انتصار إيراني
في ظلّ مأساة جنوب لبنان وفي ظلّ ما يحدث في اليمن والبحر الأحمر توسّعت حرب غزّة. تحوّل انتصار “حماس” في السابع من أكتوبر الماضي إلى انتصار إيراني. هل تستطيع “الجمهوريّة الإسلاميّة” ابتلاع اللقمة التي وجدتها أمامها وهجمت عليها بشهيّة ليس بعدها شهيّة؟
الأكيد أنّ فلسطينيّين كثراً سيعترضون على أنّ “طوفان الأقصى” كان انتصاراً لإيران لا انتصاراً لـ”حماس” التي ارتبطت بعلاقة عضوية مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” منذ سنوات طويلة. عملت طوال تلك السنوات على المساهمة في سيطرة اليمين الإسرائيلي على إسرائيل. تحوّلت “حماس” عبر عملياتها الانتحارية في مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو منتصف تسعينيات القرن الماضي… وبعد الانسحاب الإسرائيلي من غزّة صيف 2005 إلى رهان لليمين الإسرائيلي الذي تخلّص باكراً من إسحق رابين في تشرين الثاني 1995.
يوجد حالياً واقع لا مجال للهرب منه. يشير هذا الواقع إلى أنّ كلّ المعنيين بحرب غزّة في مأزق، بمن في ذلك إيران التي يمكن اعتبارها المنتصر الوحيد في تلك الحرب بعدما تبيّنت فعّاليّة أدواتها في المنطقة كلّها.
وضعت حرب غزّة الجميع في مأزق، خصوصاً إسرائيل التي فاتها وما يزال يفوتها أنّ التخلّص من غزّة لا يعني التخلّص من القضيّة الفلسطينيّة. تصفية غزّة لا تعني تصفية القضيّة الفلسطينيّة.
إقرأ أيضاً: من يفاوض باسم لبنان بعد حرب غزّة؟
يستحيل على إيران تحقيق مشروعها الإقليمي على الرغم من كلّ النقاط التي سجّلتها على هامش حرب غزّة، خصوصاً في العراق. يستحيل على إسرائيل الانتصار على الشعب الفلسطيني. هناك مستحيلان يتصارعان في ظلّ إدارة أميركية حائرة، خصوصاً أنّ ضرب الحوثيين بالطريقة التي اعتُمدت لا يحلّ أيّ مشكلة في اليمن الذي صار عبئاً على المنطقة كلّها بعدما تحوّل جزء منه إلى كيان إيراني، بل قاعدة صواريخ ومسيّرات إيرانية، في شبه الجزيرة العربيّة.