خلال الأسابيع القليلة الأخيرة، توافد دبلوماسيون أميركيون من وزارة الخارجية ومن جهاز الأمن القومي في البيت الأبيض، ومن مؤسسات رسمية أخرى في بعض عواصم المنطقة، وكان بعضهم من أجل حضور فعّاليات. وحرص هؤلاء على إجراء لقاءات غير رسمية مع نظراء عرب وغير عرب، من أجل عصف أفكار حول “اليوم التالي” بعد انتهاء حرب غزة، وحول إعادة الإعمار وصولاً إلى انعكاسات الحرب على الدول المجاورة، ولا سيما مصر والأردن ولبنان وسوريا. وقد أجرى هؤلاء حوارات مع دبلوماسيين وموظّفين كبار عرب.
بين “وهم” القضاء على “حماس” وارتفاع شعبيّتها
بين أبرز ما سجّله محدّثو الدبلوماسيين الأميركيين من العرب في دفاتر ملاحظاتهم نقلاً عنهم يمكن ذكر الآتي:
– يقرّ معظم الدبلوماسيين الأميركيين في جلسات النقاش التي خاضوها معهم بأنّ الهدف الإسرائيلي إنهاء حركة “حماس” هو وهم، وأنّ الجانب الأميركي يحاول إفهام الحكومة الإسرائيلية ذلك. بل على العكس فإنّ شعبية الحركة صارت أقوى وأكثر ليس فقط في غزة بل وفي الضفة الغربية أيضاً.
– تُكثر المؤسّسات الأميركية من إجراء استطلاعات الرأي، لمعرفة مدى نموّ شعبية “حماس” ليس فقط على الصعيد الفلسطيني بل على الصعيد العربي أيضاً. واهتمّ “معهد واشنطن – Washington Institute” أحد أهمّ مراكز الأبحاث، وهو مقرّب من “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة، بإجراء استطلاع للرأي على عيّنة من ألف شخص حول نموّ شعبية “حماس” في المملكة العربية السعودية وتحليل نتائجه. وقد نُشر في 21 كانون الأول الماضي، وانتهى إلى أنّ هناك “قفزة” في النظرة الإيجابية حيال “حماس” على الرغم من أنّ الشريحة التي تؤمن بتلك النظرة ما زالت أقلّ من نصف الأشخاص الذين جرى استطلاع آرائهم (ارتفعت من 17 إلى 47 في المئة بعد عملية “طوفان الأقصى” والحرب الإسرائيلية على غزّة).
خلال الأسابيع القليلة الأخيرة، توافد دبلوماسيون أميركيون من وزارة الخارجية ومن جهاز الأمن القومي في البيت الأبيض، ومن مؤسسات رسمية أخرى في بعض عواصم المنطقة، وكان بعضهم من أجل حضور فعّاليات
بحث عن “اليوم التالي” بعد خسارة جيلَين
– توصّل هؤلاء الدبلوماسيون العرب إلى أنّ واشنطن يجب أن تشارك في إعادة إعمار غزة بفعّالية، لأنّها تساعد في ترميم صورة أميركا التي تضرّرت عربياً خصوصاً بسبب انحيازها الحاسم لإسرائيل ومجريات الحرب الإسرائيلية على القطاع. ويعترف بعض هؤلاء الدبلوماسيين بأنّ أميركا خسرت جيلين من العرب لا جيلاً واحداً فقط جرّاء هذا الانحياز، وأنّ ما بنته خلال عقود من صورة “الوسيط من أجل السلام” قد سقط في شكل دراماتيكي.
– القتال في غزة أسّس لمرحلة حرب العصابات التي ستصعّب الأمور على الجيش الإسرائيلي في شكل يجعل الحرب طويلة. كما يصعب على المستوى السياسي في تل أبيب احتمال التعامل مع زيادة خسائر الجيش غير المسبوقة بمواجهة مقاومة “حماس” والفصائل الأخرى، مقابل عدم احتمال واشنطن تنامي الضغط الدولي، الشعبي والرسمي، الرافض للمجازر التي ترتكبها القيادة الإسرائيلية العسكرية والسياسية ضدّ المدنيين وحملات الإبادة الجماعية، وهو ما دفع الدبلوماسية الأميركية إلى الإلحاح على تل أبيب أن تضع سقفاً زمنياً للمعارك، لكن من دون أن تلزمها بتوقيت واضح.
– فوجئ بعض هؤلاء الدبلوماسيين العرب بأنّ الدبلوماسيين الأميركيين ركّزوا على طرح الأسئلة حول الأفكار المتاحة في شأن “اليوم التالي” للحرب على الأصعدة كافّة، لأنّ رؤيتهم وخططهم في هذا الصدد مشوّشة وغير واضحة. هم الذين يعترفون بأنّهم لا يملكون تصوّراً حوله، لأنّ عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) وتداعياتها فاجأتهم. كما فوجئوا بقوّة ردّ الفعل الدولي ضدّ سياستهم مع مرور الوقت وإزاء انحيازهم الحاسم إلى جانب إسرائيل، في وقت تتهيّأ أميركا لانتخابات رئاسية خلال العام الجديد. وهي انتخاباتٌ ستلعب تداعيات الحرب دوراً فيها، خصوصاً في تحديد خيارات الناخبين حيال الرئيس جو بايدن، إن من المتعاطفين مع إسرائيل، أو من المتضامنين مع الفلسطينيين. ويكفي أنّ جزءاً من جمهور الشباب في الحزب الديمقراطي يتّجه للامتناع عن التصويت.
واشنطن لن تسمح بهزيمة إسرائيل…
إذا كانت هذه الحقائق وغيرها توحي بأنّ تمايز واشنطن عن تل أبيب في التعامل مع الحرب على غزة سيقود إلى وقف الحرب، فإنّ مقابل الصورة المشوّشة التي تفسّر التخبّط الأميركي توجد قراءة في أوساط النخب السياسية العربية معاكسة ترى في احتمالات ضغط واشنطن على تل أبيب مسألة ظرفية وتكتيكية، لأنّ الموقف الأميركي الحاسم لدى إدارة بايدن ومعظم الدول الغربية هو فعل كلّ ما يمكن لمنع هزيمة إسرائيل، وبأيّ ثمن. هذه القاعدة لا تمنع توظيف بعض وقائع الحرب على أنّها ضغوط على الجانب العربي من جهة، وعلى إسرائيل “لإنقاذها من نفسها” من جهة ثانية، في شكل يبقي زمام المبادرة في يد واشنطن.
لا يستثني طاقم بايدن مصر من توظيف النقيضين، إسرائيل وإيران، في ما يسمّيه بعض الأوساط “ابتزاز” القاهرة، التي رفضت تهجير الغزّيين إلى سيناء
تعدّد هذه الأوساط العربية الدبلوماسية استنتاجاتها كالآتي:
توظيف مشاغلة الحزب لتطويع تل أبيب؟
1- التمايز الأميركي – الإسرائيلي في شأن دور طهران الذي تمارس واشنطن تساهلاً نسبياً معه، بعدما تمادت أذرع “حرس الثورة” في مشاغلة تل أبيب وأميركا، بدءاً بلبنان، ومروراً بسوريا والعراق، وانتهاءً باليمن، يشكّل عامل ضغط على تل أبيب توظّفه الإدارة الأميركية لتطويع الحسابات المغالية من قبل اليمين الإسرائيلي المتطرّف. فواشنطن ما زالت حتى إشعار آخر على تفضيلها التفاهم مع طهران، ما دامت تمتنع الأخيرة عن الانخراط في حرب شاملة. يذهب بعض الأوساط، وبينها رموز فلسطينية، إلى القول إنّ إدارة بايدن توظّف المشاغلة التي يمارسها الحزب على جبهة الجنوب اللبناني، للضغط على بنيامين نتانياهو من أجل أن ينسجم معها في وقف الحرب على غزة، عندما يحين الوقت الذي تراه مناسباً.
2- اليمين الإسرائيلي يدرك أنّ مواجهة الحزب وإيران على الجبهة الشمالية تتطلّب ضماناً بتزويد إسرائيل بالذخائر والأسلحة المطلوبة في حال توسّع الحرب، بينما ترتفع في الكونغرس الأميركي الأصوات ضدّ تزويد الإدارة لتل أبيب بمزيد من العتاد. أثبتت الحرب على غزة أنّ الدولة العبرية معرّضة للاستنزاف بعدما فقدت قوة الردع في عملية “طوفان الأقصى”، وهي تحتاج إلى جسر جوّي تسليحي أميركي لخوض الحرب، فكيف إذا أفضى فتح جبهة لبنان إلى توسّعها؟ وقول نتانياهو السبت الماضي إنّ الحرب على غزة ستستمرّ أشهراً إضافية هو إعلان يستوجب المزيد من التسليح الأميركي. وهو يعتمد على دعم توجّهاته من قبل اللوبي الصهيوني في واشنطن لاستمرار تدفّق الدعم.
… واستثمار تمادي الحوثيّ حيال الرياض لأجل التطبيع
على الرغم من أنّ تصعيد أذرع طهران يطاول الوجود العسكري الأميركي في العراق وسوريا، فإنّ هذه الأذرع تتقصّد عدم أذيّة الجنود الأميركيين لأنّ الدولتين تُبقيان باب التفاوض مفتوحاً. لا تستبعد أوساط النخب التي تراقب علاقة “التفاوض بالحديد والنار” بين طهران وواشنطن، توظيف إدارة بايدن التصعيد الإيراني، عبر الحوثيين في البحر الأحمر أيضاً، في علاقة هذه الإدارة مع دول الخليج العربي. فتهديد الملاحة البحرية يطال أمن هذه الدول وفق فصول حرب اليمن في السنوات السابقة، وهو ما يبقيها بحاجة إلى الحماية الأميركية على الرغم من التقارب السعودي الإيراني. وواشنطن تريد ضبط أيّ تضامن مع الفلسطينيين بحدود لا تخرج عن عباءة مصالحها ولا تُغيّر في موازين القوى ولا تمسّ التفوّق الإسرائيلي. وما تسرّب عن المحادثات التي أجراها وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر في واشنطن مع مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جيك سوليفان في 26 الشهر الماضي حول “اليوم التالي”، يؤكّد أنّها تناولت “مواصلة العمل على التطبيع”.
إقرأ أيضاً: المبادرة المصريّة في سياقها السياسيّ
3- لا يستثني طاقم بايدن مصر من توظيف النقيضين، إسرائيل وإيران، في ما يسمّيه بعض الأوساط “ابتزاز” القاهرة، التي رفضت تهجير الغزّيين إلى سيناء. وهي أكثر المتضرّرين من إعاقة الحوثيين الملاحة الدولية عبر باب المندب وبالتالي قناة السويس، بعد تحويل إبحار سفن الشحن نحو رأس الرجاء الصالح، جرّاء سيطرة الحوثيين على جنوب البحر الأحمر. فإطالة تحكّم الحوثيين بهذا الممرّ المائي تزيد من خسائر مصر وسط أزمتها الاقتصادية الصعبة، وتمنع تدفّق مليارات الدولارات إلى اقتصادها المتعب.
تتعدّد مظاهر ما تسمّيه الأوساط نفسها “الابتزاز الضمنيّ لمصر”، عن طريق طرح نتانياهو السيطرة على “شريط فيلادلفيا”، بذريعة مراقبة تهريب السلاح إلى غزة. وهو شريط تحت السيادة المصرية وفق اتفاق عام 2005 مع رئيس الحكومة الراحل آرييل شارون على انسحاب إسرائيل من غزة. تضاف إلى وسائل الضغط على مصر لجرّها إلى القبول بالنسخة الإسرائيلية من “اليوم التالي”، مقابل مساعدتها اقتصادياً، الإعلان عن فشل المفاوضات مع إثيوبيا حول أزمة سدّ النهضة. وواشنطن وتل أبيب تدعمان موقف أديس أبابا.