الشيوعيّ كريم مروّة للشيعة… تبدّلوا وإلّا فلن تبقوا لا أنتم ولا لبنان

مدة القراءة 8 د


يرحلون الواحد تلو الآخر. برحيلهم يطوون حقبةً من تاريخ لبنان والعالم العربي والعالم. حقبة كانت محطّ آمال شعوب كثيرة تتوق إلى العدالة والحرّية والتحرّر وعالم أكثر إنسانيةً. في العقود التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوطه، بدوا متنفّساً لكثيرين راحوا يهربون من الواقع المرّ ويلوذون بهم، وبذكرياتهم عن زمن النضال من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة والحرّية في لبنان، وبزمن النضال من أجل التحرّر وتحرير فلسطين عربياً.
هو زمن النضال من أجل عالم أكثر إنسانيةً على مستوى العالم الثالث والعالم عموماً. جورج حاوي، جورج بطل، حبيب صادق… واليوم كريم مروة واللائحة تطول. تاريخ من نضال وأحلام وآمال طُويت ربّما إلى غير رجعة.
تاريخهم وتجربتهم يفتحان الأفق عن بحث جديد للعالم في ظلّ النيوليبرالية. لهم الكثير في قيادة “التحرّر” ضدّ كلّ هيمنة وتسلّط، سواء من الخارج أو من الداخل. عليهم أكثر يوم عجزوا عن تقديم إجابات تتّصل بأوطانهم بسبب من الالتحاق بالمركز: الاتحاد السوفيتي. التحاق الآن يشبه اللبنانيين وما يرومونه من دول تنقذ مللهم ونحلهم: هنا تشابه الشيوعيون مع الطوائف.
تاريخ كامل لم يبقَ منه سوى وريقات تؤرّخ لحدث هنا وفكرة هناك ومقاومة هنالك، بالكاد وجد بعضها طريقاً إلى النشر، وتلك مأساة الشيوعيين كلّهم في الوطن العربي. يحاولون التغريد خارج السرب الذي لا يلبث أن يعيدهم طائعين، أو يفتح عليهم أبواب العتمة.
مأساة الشيوعيين التي لا تني تتكرّر أنّهم يعرفون جيّداً ما يرفضونه. لكن بالمقابل لا يقولون ما يريدونه على وجه الدقّة. الشيوعيون ومعهم كثير وجزيل من يسار بدوا أنّ الرأسمالية لفظتهم. أقرانهم بدا انتسابهم إلى الماركسية ثابتاً وأصيلاً. وهم أيضاً استغرقوا وقتاً قاتلاً لهم وللمجتمعات التي تسيّدوا عليها قهراً أو قناعةً.
جلّهم ذهب إلى الشيوعية ورذل الماركسية. غالبهم بدا شيوعياً لا ماركسياً. كاسروا الجميع. والجميع كاسرهم في كلّ شيء: في سيرهم الذاتية وحرّياتهم الفردية. في عقولهم التي تحرّرت من النهائيات وذهبت للبحث عن جديد. كانوا كذلك لأنّهم هم ما عرفوا التمييز بين الله وبين “أحزاب الله”. كان قتالهم سهلاً ويسيراً في شرق تحكمه سيَر الماضي.

برحيل كريم مروة، وقبله الكثير من المفكّرين والقادة العلمانيين، لا بدّ لنا من إعادة تأريخ تلك المرحلة في ظلّ ما نشهده في عالمنا العربي وفي لبنان من صعود غير مسبوق للأصوليات الدينية

الشيوعيّ العربيّ الأخير؟
يختصر كريم مروة في شخصه ونضالاته تاريخ الشيوعيين في الوطن العربي، من العراق إلى سوريا ولبنان. ويختصر كذلك تاريخاً من النضال في الجنوب اللبناني ولبنان عموماً. قامة يسارية شامخة لا تطالها قمم، ومفكّر يساري حداثي تشهد على مواقفه أحداث ومفترقات طرق وكتب وصحف ومجلّات.
وُلد في عائلة دينية عام 1930 في بلدة حاريص الجنوبية. تتلمذ على يد والده الشيخ أحمد مروة فختم القرآن وهو في عمر الثامنة. ككثر من القادة اليساريين والشيوعيين الذين خرجوا من عائلات دينية إلى أحزاب علمانية طارحين آلاف الأسئلة التي تتناول الأديان وعلاقتها بالدول والمجتمعات والزمن الحديث وحركات الحداثة والتحرّر.
يقول الراحل في آخر حوار معه أجرته الزميلة نوال نصر قبل أشهر في جريدة “نداء الوطن”: “أدخلني والدي الشيخ الشيعي إلى مدرسة اللاتين الكاثوليكية، وسلّمني إلى رئيسها الأب عبد الله من دون أن يدخل معه في شروط التعليم، الأمر الذي أدهش الأب المسيحي الكاثوليكي الذي طلب منّي أن أقرأ له آيات من سورة مريم في القرآن لمدّة عشر دقائق قبل الدخول إلى الكنيسة للصلاة مع سائر التلامذة: أبانا الذي في السماوات…”.
ثمّ أرسله والده إلى “النجف الأشرف” ليكمل تحصيله الديني، على جري عادة العائلات الدينية في إرسال أبنائها إلى هناك، لكنّه تأثّر هناك بابن عمّه المفكّر الراحل حسين مروة الذي خلع العمامة وانضوى في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. حسين مروة الكهل سيقضي حتفاً مأساوياً في فراشه. قيل الكثير عن أسباب “طلقات الغدر”. لكنّ أحداً لم يقُل شيئاً عن مطلقها. هو قال أساساً “ولدت شيخاً وأموت طفلاً”. كان يشير بذلك إلى غلبة شيوعية وُلدت في النجف وخرجت لاحقاً على الأهل والموروث لتبحث عن جديد.
على هدي حسين مروة وتحت إشرافه سار المفكّر الراحل كريم، فتابع دراسته الثانوية في مدارس بغداد. وهناك، انضمّ إلى صفوف ثورة عام 1948، وتأثّر بالأفكار والمبادئ الشيوعية، قبل أن يعود إلى لبنان ويلتحق بالجامعة اللبنانية دارساً الأدب العربي في عام 1952، وكان يمارس العمل في مهنة التعليم.
انتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني عام 1952، وما لبث أن ترك الدراسة الجامعية قبل انقضاء العام الأوّل منها بقرار من قيادة الحزب التي أرسلته ليمثّل الشبيبة الديمقراطية العربية في قيادة اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي، بعدما انتُخب في المؤتمر الثالث للاتحاد عضواً في لجنته التثقيفية، واستمرّ في موقعه ذاك حتى أواخر عام 1957.
عام 1962 اختير ليمثّل حركات السلم العربية في القيادة اليومية لمجلس السلم العالمي الذي كان مقرّه في فيينا. واستمرّ في موقعه ذاك حتى أواخر عام 1964.
بعيد عودته إلى لبنان أواخر ذلك العام انتُخب عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني، وظلّ في موقعه حتى عام 1984، حين انتُخب نائباً للأمين العامّ للحزب وبقي في منصبه حتى عام 1992 حين اعتذر في المؤتمر السادس للحزب عن الاستمرار في مهامّه، وعاد إلى المكتب السياسي حتى عام 1999، حين قرّر في المؤتمر الثامن للحزب عدم الترشّح لأيّ منصب بسبب تجاوزه التاسعة والستين من العمر، منصرفاً للكتابة والعمل الفكري.

في الحزب الشيوعي، ساهم كريم مروة في تجديد الحزب وفي تكريس استقلاليته عن الاتحاد السوفيتي في قضايا عدّة، ومنها القضية الفلسطينية

في الحزب والوطن والشيعة
في الحزب الشيوعي، ساهم كريم مروة في تجديد الحزب وفي تكريس استقلاليته عن الاتحاد السوفيتي في قضايا عدّة، ومنها القضية الفلسطينية، وضرورة تلازم الديمقراطية والاشتراكية في ستّينيات القرن الماضي.
كما نظّر لأزمات قضايا التحرّر العربي والماركسية في البلدان العربية في بحوث ومقالات كان ينشرها في مجلّة الطريق التي اشتغل فيها عقوداً طويلةً إلى أن أشرف عليها منذ عام 1993 إشرافاً مباشراً. كما رأس تحرير جريدة النداء اليومية منذ عام 1961، وهو الذي بدأ الكتابة والعمل الصحافي في السابعة عشرة من عمره. ولطالما أثارت مقالاته وبحوثه جدلاً كبيراً في لبنان وفي أوساط اليساريين والماركسيين العرب.
أيضاً، مثّل الحزب الشيوعي اللبناني في العديد من المؤتمرات العربية والعالمية للأحزاب الشيوعية، من موقعه في قيادة الحزب، وتصدّى للعديد من الإشكاليات الفكرية والثقافية والسياسية التي شكّلت ثقافياً وفكرياً تاريخ الأحزاب الشيوعية واليسارية في بلادنا.
للراحل مقالات وأبحاث ومؤلّفات كثيرة ما فتئ الباحثون يرجعون إليها حتى أيامنا هذه لما تتضمّنه من إشكاليات وقضايا فكرية لم يعالجها سوى قلّة قليلة من المفكّرين والباحثين والمنظّرين. أبرز مؤلّفاته: “ماذا بعد حرب تشرين؟” (1974)، “كيف نواجه الأزمة في حركة التحرّر الوطني العربية؟” (1974)، “المقاومة: أفكار للنقاش عن الجذور والتجربة والآفاق” (1985)، “حوارات: مفكّرون عرب يناقشون كريم مروة في القومية والاشتراكية والديمقراطية والدين والثورة” (1990)، “جدل الصراع مع إسرائيل وجدل السلام معها” (1994)، “الوطن الصعب -الدولة المستحيلة (1995)، “حوار الأيديولوجيات: بين أفكار ماركسية وأفكار دينية” (1997)، “نحو جمهورية ثالثة” (2001)، “من ذاكرتي الفلسطينية” (1998)، “كريم مروة يتذكّر في ما يشبه السيرة” (2002)، و”تأمّلات في عالم الغد” (2003).

إقرأ أيضاً: في وداع رياض الترك… انتصرت الديكتاتوريّات؟

ظلّ كريم مروة يطرح الإشكاليات ويتناول القضايا المصيرية حتى آخر رمق، ولعلّ ما كتبه في آخر مقالاته سيبقى محطّ جدال حتى زمن طويل، إذ قال عمّا كتبه أخيراً، في ما يشبه الوصيّة مستشرفاً: “أقول للشيعة: إذا بقيتم حيث أنتم اليوم سيبقى لبنان مقسوماً منقسماً ولن يبقى لا لبنان ولا أنتم”.
برحيل كريم مروة، وقبله الكثير من المفكّرين والقادة العلمانيين، لا بدّ لنا من إعادة تأريخ تلك المرحلة في ظلّ ما نشهده في عالمنا العربي وفي لبنان من صعود غير مسبوق للأصوليات الدينية، وكذلك وفي ظلّ ما وصلنا إليه وما أوصلتنا إليه كذلك حركات التحرّر الوطني والأحزاب اليسارية والعلمانية والشيوعية، متحرّرين في ذلك من سطوة حضور أولئك القادة الأفذاذ علّنا نصل إلى برّ أمان ما، فمن يتصدّى؟

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…