بعد أكثر من قرن على بلفور… “وعد كاميرون”

مدة القراءة 6 د


أزاحت بريطانيا بيدقاً مهمّاً على رقعة التسوية السياسية في الشرق الأوسط لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. هذا ما يكشفه موقف لندن بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية، وهي أعراضٌ مكتومة لتحوّل جذري لمواقف الدول الغربية بشأن أبجديّات الحلّ والسلم الدائمين باتجاه الدفع بموقف دولي يُفرض على أطراف الصراع، وخصوصاً على إسرائيل.

يُقدّم وزير الخارجية البريطاني اللورد ديفيد كاميرون مطالعة من “خارج الصندوق” ومختلفة جذرياً عن السياق البريطاني – الغربي في مقاربة “قضية فلسطين”. هو الذي وصل إلى لبنان أمس في سياق مهمّته الجديدة، كوزير خارجية “مرحلة غزّة” في بريطانيا.

فإذا ما قامت مواقف لندن وحلفائها على مسلّمة الخضوع لمفاوضات مفترضة، أي الخضوع لمزاج إسرائيل، فإنّ رئيس الدبلوماسية في بريطانيا يحضّر الرأي العام لآليّة انقلابية بالذهاب إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية “في الوقت المناسب” من دون انتظار المآلات الأخيرة لأيّ مفاوضات. وضع كاميرون ديباجة تشبه خارطة، إذ قال: “نبدأ في تحديد شكل الدولة الفلسطينية، ما الذي ستشكّله، وكيف ستعمل (…) وسننظر مع الحلفاء في مسألة الاعتراف بدولة فلسطينية، بما في ذلك في الأمم المتحدة. قد يكون هذا أحد الأشياء التي تساعد على جعل هذه العملية لا رجعة فيها”.

أزاحت بريطانيا بيدقاً مهمّاً على رقعة التسوية السياسية في الشرق الأوسط لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. هذا ما يكشفه موقف لندن بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية

كيف جاء كاميرون؟

استدعت لندن ديفيد كاميرون رئيس الحكومة وزعيم حزب المحافظين الأسبق للالتحاق بحكومة صاحب الجلالة في 13 تشرين الثاني الماضي. أجرى حينها زعيم المحافظين الحالي رئيس الحكومة ريشي سوناك تغييراً حكومياً طارئاً كان من أهمّ تفاصيله أيضاً استبعاد وزيرة الداخلية سويلا برافرمان التي ذهبت بعيداً في الإفراط بدعم إسرائيل بعد عملية “طوفان الأقصى” وتأثيم وتجريم المناصرين لفلسطين وتظاهراتهم. والواضح أنّ اللجوء إلى كاميرون الذي غاب تماماً عن المشهد السياسي منذ استقالته عام 2016 إثر الاستفتاء الذي أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان يهدف إلى إحداث تحوّل دراماتيكي في سياسة بريطانيا الخارجية، الشرق أوسطية خصوصاً، يحتاج إلى وزير خارجية استثنائي من العيار الثقيل.

التحوّلات التي فاجأ بها كاميرون العالم والفلسطينيين والإسرائيليين بالأخص ليست مزاجاً لندنيّاً فقط، بل تعبّر عن تغيّر حقيقي في فهم العالم للصراع وفي الموقف من إسرائيل ومن الحكومات التي قادتها في السنوات الأخيرة. يقوم كاميرون بزيارته الرابعة للشرق الأوسط هذه الأيام بعد زيارات قام بها لواشنطن وبكين وعواصم أوروبية. ولا يمكن إلا اعتبار أنّ ما أعلنه هو خلاصة تحوّلات إقليمية دولية باتت ترى أنّه لا يمكن الخروج من “شلل” أطراف الصراع إلا من خلال دينامية دوليّة تغيّر من المفردات الكسولة التي ارتأت خبثاً الخضوع لمزاج إسرائيل في تفعيل أو تعطيل المفاوضات والتحكّم بخصوبتها وعقمها.

“وعد كاميرون”…

تكشف ردود الفعل داخل بريطانيا على ما أثاره كاميرون، عن استسلام الطبقة السياسية لـ”وعد كاميرون” في 29 كانون الثاني 2023 وتقادم حجج المنتقدين بخجل والمتحفّظين بوجل. وسيكون من الواجب الانتظار طويلاً قبل التأكّد من جدّيّة وأهمّية مبادرة وزير خارجية بريطانيا لعلّها تكون حدثاً يضاهي “وعد بلفور” الذي قطعه وزير الخارجية آرثر جيمس بلفور في 2 تشرين الثاني 1917، في رسالة إلى اللورد ليونيل والتر روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية، جاء فيها أنّ “حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل عظيم جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية”.

التحوّلات التي فاجأ بها كاميرون العالم والفلسطينيين والإسرائيليين بالأخص ليست مزاجاً لندنيّاً فقط، بل تعبّر عن تغيّر حقيقي في فهم العالم للصراع وفي الموقف من إسرائيل ومن الحكومات التي قادتها في السنوات الأخيرة

اختصر السفير الفلسطيني لدى المملكة المتحدة حسام زملط الحدث بأنّه “تاريخيّ”. وفي بال الرجل الأذى الذي تسبّبت به لندن لفلسطين وشعبها. وفي باله أيضاً ما يمكن أن يصلحه كاميرون إثر كارثة ما ارتكب قبل 107 أعوام. ومع ذلك لا أحد يصدّق أنّ خطاب وزير الحاضر بإمكانه في ظروف هذه الأيام تعديل تاريخ كتَبه وزير الماضي.

أميركا.. في الظلّ

لا يمكن لمسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية الذي تدعو إليه لندن أن تكون بعيدةً عن مزاج داخل أروقة القرار في واشنطن. لطالما كانت بريطانيا حليفاً تاريخياً مخلصاً للولايات المتحدة، ولطالما كانت أقرب إلى الضفة الأخرى من الأطلسي من بيئتها الجغرافية الأوروبية. وحتى حين قرّرت واشنطن استخدام الذراع العسكرية ضدّ الحوثيين في اليمن لم تجد من بين الحلفاء إلا بريطانيا شريكاً. وإذا ما تحرّكت لندن في الشرق الأوسط لتمثّل الوجه الآخر للعملة الأميركية، فإنّ اجتهادات كاميرون لن تحيد عن هذه القاعدة. وفق هذه المسلّمة تستفيق واشنطن وتعلن بعد يومين من “وعد كاميرون” أنّها بدورها تدرس الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

تستطيع بريطانيا كدولة واحدة أن تقرّر تحوّلاً لافتاً كالذي أعلنه كاميرون حيال الدولة الفلسطينية. فإذا كان الاتحاد الأوروبي بأعضائه الـ 27 سيجد صعوبة في تحقيق إجماع يذهب مذهب لندن، فإنّ البيئة الأوروبية لطالما كانت حاضنة لتحوّلات من هذا القبيل قابلة للصرف والاستثمار. ففي أوروبا وفي باريس بالذات تحوّلت سلباً علاقة فرنسا مع إسرائيل بعد حرب 1967 في عهد شارل ديغول واستقبلت، بزعامة الاشتراكي فرانسوا ميتران عام 1989، الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات حين كانت تعتبره عواصم غربية أخرى إرهابياً.

إقرأ أيضاً: أوروبا ترتجف.. ترامب عائد

على أيّة حال فإنّ كاميرون من لندن يقدّم “وعداً” ينهل فلسفته من غيرة على أمن إسرائيل “التي فشلت خلال عقود في توفيره”. يقدّم ترياقاً من خلال “إعطاء شعب الضفة الغربية وغزة طريقاً موثوقاً به إلى دولة فلسطين”. والأرجح أنّ إسرائيل سترفض “دولة فلسطين” الخارجة من خزائن كاميرون. يعرف الوزير البريطاني ذلك ويتوقّعه، وهو ما يدعو الفلسطينيين إلى التساؤل عمّا إذا كان معطف كاميرون يخفي من السحر ما يعطّل تعويذات رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو وصحبه.

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…