يوم السبت الفائت كان الحدث في بيروت الذي انطلقت شعلته من القدس منذ 60 عاماً. لم يكن حدثاً سياسياً “سِيقَ” إليه أتباع الزعماء لإحيائه، ولا فنّيّاً تهافت لحضوره المعجبون في حالة من الهستيريا والجنون، إنّما هو حدث كنسيّ شارك فيه الآلاف. أتوا بكامل إرادتهم ووعيهم. بخشوع وإيمان. إيمان بالله. أنشدوا وصلّوا من أجل وحدة الكنيسة ومن أجل السلام في الشرق والعالم.
“الحدث مسكونيّ موسيقيّ”
في البدء كان الحدث فكرة في عقل شابّ اسمه مارك مرهج. ناقشها مع راعي أبرشيّته أنطوان بو نجم. شجّعه عليها. تبنّاها “مجلس كنائس الشرق الأوسط” في بيروت. اختار الحدث مناسبة لإطلاق السنة اليوبيليّة لتأسيسه (1974-2024، اليوبيل الذهبيّ). وكلّف الأب أنطوان الأحمر، مدير دائرة الشؤون اللاهوتيّة والعلاقات المسكونيّة، التنسيق مع مختلف الكنائس في لبنان لإحياء “الحدث المسكونيّ الموسيقيّ”. وتمّ تعيين يوم السبت 20 كانون الثاني له، وهو يوم في قلب أسبوع الوحدة السنويّ (18-25 كانون الثاني)، وفيه تصلّي كل كنائس العالم من أجل الوحدة.
أحيا الحدث أكثر من 250 مرنّماً، شيوخاً وشباباً وصغاراً أتوا من مختلف الكنائس والمناطق. وقفوا جنباً إلى جنب على منصّة كبيرة أُعدّت للمناسبة في “الفوروم” في قلب بيروت. وأنشدوا بصوت واحد، لكن بلغات وتُراثات دينيّة متنوّعة. أنشدوا بالعربيّة، والسريانيّة، واليونانيّة، والأرمنيّة… أنشدوا تراتيل من مختلف الطقوس الليتورجية: المارونيّة، والبيزنطية، والسريانيّة، والكلدانيّة، والأرمنيّة… رافقهم حوالي 50 عازفاً من فرقة الأوركسترا في الكونسرفاتوار الوطنيّ. على مدى ساعتين انتشلوا بيروت من سُباتها. وأكّدوا أنّه لا يزال هناك دور للبنان في هذ الشرق بعدما أفقده الانهيار جميع أدواره السياحيّة والماليّة والتربويّة والاستشفائيّة.
أحيا الحدث أكثر من 250 مرنّماً، شيوخاً وشباباً وصغاراً أتوا من مختلف الكنائس والمناطق. وقفوا جنباً إلى جنب على منصّة كبيرة أُعدّت للمناسبة في “الفوروم” في قلب بيروت
حضر “الحدث المسكونيّ الموسيقيّ” أكثر من 10 آلاف شخص. تقدّمهم بطاركة الشرق الكاثوليك والأرثوذكس وكلّ رؤساء الكنائس المشاركة في مجلس كنائس الشرق الأوسط، وأساقفة وكهنة ورهبان وراهبات.
60 عاماً على اللقاء في القدس
تزامن “الحدث المسكونيّ الموسيقيّ” في بيروت مع الذكرى الـ60 للّقاء التاريخيّ بين البابا بولس السادس والبطريرك المسكونيّ أثناغوراس في القدس (5-6 كانون الثاني 1964). كان اللقاء الأوّل من نوعه في التاريخ بين رأس الكنيسة الكاثوليكيّة وبطريرك القسطنطينيّة منذ قرون. تبعه في السنة التالية رفع الحرمانات التي تبادلها رؤساء الكنائس في عام 1054 وأدّت إلى أكبر انقسام في الكنيسة. ففي 7 كانون الأول من عام 1965 أُعلن من كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان رفع الحرمان عن بطريرك القسطنطينيّة، ومن كنيسة القديس جاورجيوس في القسطنطينيّة (إسطنبول) رُفع الحرمان عن بابا الفاتيكان.
انقسام لأسباب سياسيّة
أطلق لقاء بولس السادس وأثناغوراس مسيرة التقارب بين الكنيستين بعد تسعة قرون من الخلاف الذي كانت أسبابه سياسيّة أكثر منها لاهوتيّة. في تلك الفترة من التاريخ عرفت الكنيسة مرحلة البابا – القيصر (césaro-papisme). كان خلالها البابوات يتعاطون السياسة والأباطرة يتدخّلون في الشؤون الكنسيّة. لم يعمل رجال الدين بما قاله يسوع: “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”. خلطوا بين الأمرين. فاختلطت عليهم المفاهيم. واختلفوا على الكلمة وتفسيراتها. وانعكس الصراع بين الإمبراطورية في الشرق والإمبراطورية في الغرب على الكنيسة. وهو ما أدّى إلى انقسامها بين كنيسة شرقيّة وكنيسة غربيّة، انقسام دفعت ثمنه الأغلى الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق. غالبيّتها تعرّضت للانقسامات. لم تسلَم سوى الكنيسة المارونيّة. وغالباً ما اتُّهمت الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق بالخيانة من قبل الأرثوذكس. وعانت من “اللَيتَنَة” (نسبة إلى الكنيسة اللاتينية) على مدى قرون. أضاعت خلالها هويّتها الكنسيّة. وتعرّض قسم من تراثها الدينيّ المكتوب للحرق والتلَف. ولم “تتحرّر” من تلك “الهيمنة” إلا بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (1961-1965) الذي دعا الكنائس إلى استعادة هويّتها من خلال العودة إلى تراثها الدينيّ.
حضر “الحدث المسكونيّ الموسيقيّ” أكثر من 10 آلاف شخص. تقدّمهم بطاركة الشرق الكاثوليك والأرثوذكس وكلّ رؤساء الكنائس المشاركة في مجلس كنائس الشرق الأوسط، وأساقفة وكهنة ورهبان وراهبات
رجالات الوحدة
ربّما لا يلمس المسيحيون في لبنان تطوّر مسيرة الوحدة الكنسيّة. إذ لا يزال هناك أحَدان للشعانين، ويومان للجمعة العظيمة يُصلب فيهما المسيح، وعيدان للفصح يقوم فيهما. بيد أنّه خلال 60 عاماً شهدت مسيرة الوحدة بين الكنيستين تقارباً كبيراً صنعه رجالات كبار، عِلماً أنّ المسيحيين يؤمنون أنّ “الروح القدس” هو من يصنع الوحدة في الكنيسة.
في الكنيسة الكاثوليكيّة عمل البابوات المتعاقبون بعد بولس السادس على تحقيق الوحدة. وأنشأ الفاتيكان للغاية دائرة اسمها بحسب التنظيم الجديد “دائرة نشر الوحدة بين المسيحيين”.
من جانب كنيسة القسطنطينيّة، إضافة إلى مبادرة البطريرك أثناغوراس، لعب البطريرك المسكونيّ الحالي برثلماوس الأوّل دوراً محوريّاً. فهو تعرّف إلى كنيسة روما منذ صباه. ففي عام 1963 أرسله رؤساؤه للدراسة في “الكلّيّة الشرقيّة الحبريّة” في روما. حينها كان المجمع الفاتيكاني الثاني منعقداً. لمس الشابّ بداية انفتاح جديد في الكنيسة الكاثوليكيّة. تابع أعماله. وتفاعل معها بعد عودته إلى القسطنطينيّة. فشارك في 1979 في تحضير زيارة البابا يوحنا بولس الثاني لـ”الفنار”، مقرّ البطريرك المسكونيّ في القسطنطينيّة. كما نظّم زيارة سلفه البطريرك ديمتريوس الأوّل للفاتيكان في 1987. واستقبل البابا بنديكتوس الـ16 في “الفنار” في 2006 لمناسبة عيد القديس أندراوس، شفيع كنيسة القسطنطينيّة. وردّ له الزيارة في 2008. وفي عام 2013 شارك في حفل تنصيب البابا فرنسيس. وكان بذلك أوّل بطريرك أرثوذكسيّ مسكونيّ يشارك في تنصيب بابا روما منذ 1054. تبع ذلك بعد سنة (2014) لقاءٌ بين الرجلين في القدس وقّعا خلاله إعلاناً مشتركاً من أجل وحدة الكنيستين.
لا يزال “لبنان الرسالة”
يوم الأحد الفائت، وأثناء خروجي من القدّاس في فرنسا حيث أقيم، سألت الكاهن الفرنسيّ ما إذا كانوا يُحيون “أسبوع وحدة الكنائس”. أجاب “لا علم له بالأمر” على الرغم من وجود كاثوليك وبروتستانت وكنائس أخرى في البلاد. هذا الجواب أكّد لي أهمّيّة “لبنان الرسالة” ليس على مستوى الحوار الإسلامي – المسيحيّ فحسب، إنّما أيضاً على مستوى الحوار والتقارب بين الكنائس المسيحيّة. في العالم العديد من المجالس لوحدة الكنائس. بعضها محلّيّ. والأخرى عالميّة، أبرزها “مجلس الكنائس العالميّ” في سويسرا، حيث للكنيسة الكاثوليكيّة صفة عضو مراقب، بيد أنّها عضو مشارك وفعّال في “مجلس كنائس الشرق الأوسط” الذي مركزه بيروت.
إقرأ أيضاً: هل توقف “خارطة الطريق” الأوروبيّة الحرب في غزّة؟
في ختام “الحدث المسكونيّ الموسيقيّ” صعد البطاركة ورؤساء الكنائس والأساقفة إلى المنصّة. تلوا صلاة الوحدة بصوت واحد وصلّوا لآلام فلسطين، وشكّلت الصلاة نداءً من أجل وقف المجزرة في غزّة بحقّ الأطفال الأبرياء والأمّهات الثكالى والآباء المتألّمين والشيوخ العُجّز. كانت تحيّة وسلام من بيروت إلى القدس وغزّة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@