من سينتصر في حرب غزة؟ بل ما هو شكل النصر أو الهزيمة لكلٍّ من الطرفين: المقاومة الفلسطينية وإسرائيل؟ وهل يمكن أن تنتصر إسرائيل عسكرياً وتخسر سياسياً، فتواجه كابوس الدولة الفلسطينية التي ما فتئت تهرب منها على مدى 75 سنة وأكثر، أو أن تنتصر حماس بأن لا تنهزم أمام الآلة العسكرية الضخمة والقدرة التدميرية الهائلة لإسرائيل وحلفائها الداعمين لها بكلّ الوسائل الممكنة، حتى لو خرجت حماس من المعادلة السياسية من أجل الشعب الفلسطيني المكلوم؟ وهل يقترب الشعب الفلسطيني بفضل “طوفان الأقصى” من تحقيق آماله بالحرّية والاستقلال وإقامة دولته الحقيقية ذات السيادة، أم يبتعد عنها أكثر فأكثر؟
أهداف الحرب
لحكومة نتانياهو هدفان في الحرب على غزة: واحد علنيّ وهو القضاء على حركة حماس، وما يتبع ذلك من ظروف جديدة يجري فرضها على الفلسطينيين تباعاً، وهدف مُضمَر شبه معلن، وهو تهجير سكّان القطاع إلى خارجه، سواء إلى بلدان قريبة أو بعيدة، وإن اقتضى الأمر رميهم في البحر، ليقضوا حياتهم في الجزيرة العائمة التي اقترحها وزير الخارجية الإسرائيلي إسرائيل كاتز على وزراء الاتحاد الأوروبي في اجتماع الإثنين الماضي. لكنّ إسرائيل لم تصل بعد إلى تحقيق أيٍّ من الهدفين، على الرغم من فترة السماح التي منحها حلفاؤها لها لتنفيذ المطلوب. وبدلاً من ذلك، يتزايد الكلام عن حلّ الدولتين، ليس لإنقاذ الفلسطينيين من الجحيم الذي يعيشون فيه تحت الاحتلال، بل لإنقاذ إسرائيل من المأزق الاستراتيجي الذي أدخلت نفسها في عواقبه. أمّا أهداف حركة حماس من الحرب التي ابتدأتها في 7 تشرين الأول الماضي، فقد أعلنتها في الوثيقة التي أصدرتها أخيراً، تحت عنوان: “هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟”. وتتلخّص في هدف مباشر وقريب، وهو إطلاق سراح آلاف من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، من خلال عملية تبادل مع الأسرى الإسرائيليين الذين وقعوا بيد حماس والفصائل في عملية طوفان الأقصى. أمّا الأهداف البعيدة فهي تتدرّج في ثلاث خطوات كما يلي:
– وقف مسار تصفية القضية الفلسطينية.
– إنهاء الاحتلال، ونيل الاستقلال والحرّية.
– إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة وعاصمتها القدس.
ليس من السهل على إسرائيل أو على حركة حماس التنازل بأيّ شكل، لأنّه سيعني الهزيمة القاسية. لذا تمتدّ الحرب من دون أفق ملموس
فأيّ الأهداف أكثر استحالة، القضاء على الشعب الفلسطيني أم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة وعاصمتها القدس؟ هما قطبان متناقضان إلى أقصى الحدود، وأيّ اقتراب من أحد طرفَي هذه المعادلة، يعني ميل كفّة الميزان نحو أحد طرفَي الصراع. بعبارة أوضح، كلّما اقتربت إسرائيل من هدفها المضمر، وهو التهجير الجماعي لسكّان غزة، تكون إلى النصر أقرب، وليس تدمير حركة حماس والقضاء عليها سياسياً وعسكرياً. القضاء على حماس بهذا المعنى لن يريح إسرائيل من الشعب الفلسطيني الذي لن يتخلّى عن أرضه ولا عن حقوقه الطبيعية. وبمقدار ما تنجح حركة حماس في تقريب الشعب الفلسطيني من هدف إقامة الدولة الفلسطينية، تكون الكفّة مائلة أكثر إلى الجانب الفلسطيني في هذه الحرب. وليس بالضرورة أن تكسب حماس نفسها من أيّ مكسب وطني عامّ بما يخدم قضية الشعب الفلسطيني عموماً، على المدى القصير في أقلّ تقدير.
عناصر النصر أو الهزيمة
أمّا عناصر الفوز النهائي بالنسبة للطرفين المتقاتلين، فتكاد تتشابه لديهما مع لحاظ الفارق النوعي في الموارد والقدرات والحلفاء:
– الإرادة الشعبية في الصمود والقتال سواء في إسرائيل أو قطاع غزة، والضفة الغربية استطراداً. وذلك بغضّ النظر عن القدرات العسكرية لدى الجيش الإسرائيلي أو فصائل المقاومة الفلسطينية، بمعنى قدرة الإسرائيليين على تحمّل الخسائر البشرية والمادّية، وهي غير مسبوقة في تاريخ الصراع منذ إقامة دولة إسرائيل عام 1948، وقدرة الفلسطينيين على الصمود أمام حرب مدمّرة لا نظير لها في وحشيّتها في التاريخ الحديث، وفي زمن متسارع قياسي، كما قال الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. إنّ انهيار المعنويّات الشعبية في أيّ جانب، يضغط على العسكر لوقف الحرب، والخضوع لشروط الطرف الآخر. مثلاً، أن يضغط الإسرائيليون بقوّة على حكومة نتانياهو لوقف إطلاق النار وإنجاز صفقة التبادل فتنتصر حماس، أو يضغط الفلسطينيون على حماس لوقف إطلاق الصواريخ وخروج القيادة من غزة والتنازل في شروط عملية التبادل، فتنتصر إسرائيل.
– القدرات العسكرية والأمنيّة والإعلامية لدى الطرفين. لا مجال للمقارنة بين الجيش الإسرائيلي وإمكانيّاته المتطوّرة وحركة حماس والفصائل. لكنّ المقاومة الفلسطينية تمكّنت بذكاء بالغ من توظيف مواردها القليلة بأفضل السبل الممكنة. تماشت بكفاية عالية مع التقنيّات الحديثة، وأتقنت الحرب النفسية ولعبة الإعلام والتواصل الاجتماعي. تعلّمت دروس حرب المدن والعصابات في الثورات الشعبية السابقة، كما في الحروب الأخيرة، لا سيما أوكرانيا، وأضافت عليها ابتكارات ستكون دروساً مستفادة في الحروب اللاحقة. على سبيل المثال، حيّدت سلاح الجوّ الإسرائيلي، من خلال الأنفاق التي حفرتها حماس على طريقة الكلمات المتقاطعة، ولربّما فاقت أنفاق الفيتناميين الشماليين طولاً وعمقاً وتعقيداً، بحسب ما تزعم إسرائيل لتبرير إخفاقها الميداني في تدمير حماس. وفي جانب التكتيكات القتالية، كأنّ حماس قرأت في كتاب حرب الشوارع تجربة سبع ثورات، لقائد جيش المواطن الإيرلندي ICA))، جيمس كونولي James Connolly (أعدمه البريطانيون عام 1916)، وترجمه منير شفيق. في هذا الكتاب يستعيد تجارب عدّة لحرب الشوارع. لكنّ أبرز ما يلفت النظر تجربة الثورة الشعبية في موسكو عام 1905 ضدّ القيصر. لم يكن الثوّار يمتلكون سوى ثمانين بندقية ومسدّسات سريعة من طراز براونينغ Browning، في مواجهة آلاف الجنود. لكنّ التكتيك الفعّال، تركّز في إقامة عدد كبير من المتاريس الوهمية التي استنزفت جهد الجيش، والكمائن التي نصبها الثوّار قرب المتاريس لا خلفها. ألا يذكّر ذلك بمئات فتحات الأنفاق في غزة والتي هي كمائن قاتلة معدّة سلفاً؟ لكن هل يمكن أن تتفوّق تكتيكات حماس على استراتيجية التدمير والتجريف الإسرائيلية؟
المقاومة الفلسطينية تمكّنت بذكاء بالغ من توظيف مواردها القليلة بأفضل السبل الممكنة. تماشت بكفاية عالية مع التقنيّات الحديثة، وأتقنت الحرب النفسية ولعبة الإعلام والتواصل الاجتماعي
– تعبئة الرأي العالمي. ليست المعركة الدائرة في غزة محصورة فيها، بل هي حرب إقليمية ودولية بأتمّ معنى الكلمة. وبما أنّ الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، هو الداعم الأساسي والمباشر لإسرائيل، فقرار وقف الحرب، هو بيده إذا توقّف عن مدّ إسرائيل ماليّاً وتسليحياً واستخبارياً. ولن يرتدع الغرب عن مساندته لإسرائيل، ما لم ينقلب الرأي العامّ في دوله على الحكومات القائمة، وبالأخصّ في الولايات المتحدة، حيث من المنتظر انتخابات رئاسية بالغة الأهمية في تشرين الثاني من العام الجاري، بين العجوزين الديمقراطي جو بايدن والجمهوري دونالد ترامب. فكلّما نجح الفلسطينيون في حشد الرأي العامّ الأميركي، المكوّن بغالبيّته من الشباب، كان ذلك عاملاً حاسماً في نهاية المطاف في وقف المذبحة، وفي فتح الطريق لاحقاً لتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني. وممّا يساعد على هذا، صعود وسائل التواصل الاجتماعي وخرق حصار وسائل الإعلام الغربية المؤيّدة لإسرائيل أو الخاضعة للرأسمال الصهيوني، إضافة إلى تهافت الأكاذيب الصهيونية عن فظائع مزعومة ارتكبتها المقاومة الفلسطينية في غلاف غزة.
إقرأ أيضاً: غزّة: أين العرب في اليوم التالي؟
بناء على ما سبق، فليس من السهل على إسرائيل أو على حركة حماس التنازل بأيّ شكل، لأنّه سيعني الهزيمة القاسية. لذا تمتدّ الحرب من دون أفق ملموس. فلا مجال بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لشبه انتصار، بل لا بدّ من النصر المطلق، كما يؤكّد نتانياهو. وإلّا فإنّ المخرج هو وقف العمليات العسكرية من دون إعلان نهاية الحرب. بهذا، يتخلّص نتانياهو من إشكالية اليوم التالي وكابوس الدولة الفلسطينية. وفي الأثناء، يستعيد الفلسطينيون الأنفاس ويستعدّون لمعاناة طويلة من التعافي بعد وقف الإبادة، من دون أن ينالوا كلّ ما يرجونه، على أمل أن تكون هذه الحرب هي الأخيرة قبل التحرير.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@