المشهور منذ نهاية الحرب العراقية – الإيرانية عام 1988 أنّ إيران لا تقاتل بنفسها حتى في حالة الاعتداء عليها، بل تستخدم في ذلك أذرعها من الميليشيات المسلّحة التي نشرتها بالمنطقة. وحتى عندما اغتالت أجهزة الولايات المتحدة الأميركية قاسم سليماني قائد فيلق القدس على مقربة من مطار بغداد، ردّت إيران بالكاد على قاعدة أميركية في شمال العراق. قبل أيام حدث ما لم يكن يحدث من قبل: أغار الحرس الثوري الإيراني على المناطق البلوشيّة في باكستان، التي تبعد حوالى مئة كيلومتر عن الحدود المشتركة بين الدولتين. فما هي الضرورة التي اقتضت الخروج الإيراني على العرف والعادة، ومع دولةٍ جارةٍ ليست ضعيفة في عسكرها، فضلاً عن أنّها قوّة نووية منذ ثمانينيات القرن الماضي!
إيران وخطر البلوش
هناك عدّة احتمالات: أن تكون “قوميّة” البلوش المنتشرة بين باكستان وأفغانستان وإيران قد صارت تشكّل خطراً على الداخل الإيراني من قواعدها بباكستان. الباكستانيون والإيرانيون يستخدمون التذمّر والثوران البلوشيَّين من أجل الاستقلال، كلٌّ على طريقته. يشكو الجيش الباكستاني من عدم القدرة على ضبط بلوش الجبال هؤلاء. أمّا في الواقع فهناك قواعد غير معلنة لجيش العدل البلوشيّ قوامه مئات من الهاربين من إيران. في حين تحتضن إيران جماعات بلوشية تضعها في معسكرات “رسمية” من أولئك اللاجئين من باكستان والمطالبين بالاستقلال عنها. والواقع أنّ الإيرانيين كانوا يتّهمون “جيش العدل” بأنّه قوة مصطنعة تعمل لدى المخابرات الأميركية، وتستثيرها في الأزمات. والواقع أنّ مناطق البلوش (السنّية) في إيران دائمة التوتّر مثل المناطق العربية في الناحية الأخرى من البلاد، وهؤلاء قاموا قبل سنوات بعمليات فتّاكة بالداخل الإيراني، لكنّها لم تتجاوز مناطقهم، وشيوخهم الدينيون يطالبون بالحرّيات وبالحكم الذاتي وبالعدالة وليس بالانفصال. وأعدادهم بإيران ليست كبيرة، لكنّها ازدادت باللجوء من أفغانستان، ونشاطاتهم في التهريب أكبر من نشاطاتهم من أجل الاستقلال. وفي المقابل استطاعت إيران كعادتها تكوين ميليشيا بلوشيّة ليست كبيرة، لكنها توجد في إيران وتطالب بدولةٍ بلوشيّةٍ مستقلّة عن باكستان، التي يتمركز فيها معظم البلوشيين.
هناك عدّة احتمالات أن تكون “قوميّة” البلوش المنتشرة بين باكستان وأفغانستان وإيران قد صارت تشكّل خطراً على الداخل الإيراني من قواعدها بباكستان
يتحدّث المراقبون عن أنّ عدد البلوش يراوح في البلدان الثلاثة بين 12 مليوناً و15 مليوناً. وقد يكونون أقلّ لهجراتهم الكثيفة إلى بلدان الخليج. وللبلوش علاقات وثيقة بعرب الخليج. فقد كانت سلطنة عُمان تمتلك أراضي في النواحي البلوشية الباكستانية، وتخلّت عنها عام 1959 مقابل تعويضٍ مادّي، ويقال إنّ البلوشيين يعدّون في الخليج اليوم حوالى مليون ونصف مليون.
في عهد الحكومة الباكستانية الحالية (منذ حوالى عام واحد) ما تحرّك البلوش باتجاه إيران. والعلاقات بين البلدين جيّدة، وعندما أغار الحرس الثوري الإيراني على بلوش باكستان، كان وزيرا خارجية البلدين يجتمعان بدافوس لتوثيق العلاقة. فلماذا أغار الحرس الثوري بالشكل المباشر بعد الإغارة على إربيل بيومٍ واحد؟ يقال لأنّ الإيرانيين اتّهموا “جيش العدل” بمذبحة كرمان أثناء الاحتفال بالذكرى الرابعة لمقتل سليماني، وقد خلّف التفجير أو التفجيران حوالى مئة قتيل، وتبنّتهما داعش بعد يومين (!). وتراوحت الاتّهامات الإيرانية غير الرسمية بين التنظيمات الكردية الإيرانية بالعراق، والمخابرات الأميركية والإسرائيلية.. وجيش العدل! ثمّ لو أنّ “العدليّين” هؤلاء كانوا متّهمين، فلماذا لم تستخدم إيران ضدّهم التنظيم البلوشي الذي صنعته ومركزه بإيران؟! ولماذا تحمّس الحرس الثوري إلى هذا الحدّ؟ ثمّ لماذا توالت التدخّلات الروسية والصينية للوساطة، وبدا أنّ المشكلة انتهت على الرغم من غارة الطائرات الباكستانية على الداخل الإيراني، حيث أعلن الطرفان عن حلّ المشكلات بالدبلوماسية.
إيران تخالف عوائدها
لقد ركّزت على الغارتين المتبادلتين بين إيران وباكستان، لأنّ ذلك يخالف عادات إيران بعدم الاشتباك المباشر، وإذا كان لا بُدّ فمع الضعفاء أو المستضعفين مثل العراق وأكراده على وجه الخصوص. وحتى الحزب (ولشدّة انضباطه!) في التحرّشات المتبادلة مع إسرائيل منذ سنوات يزعم أنّه يراعي “قواعد الاشتباك”. لكن هل تراعي إسرائيل “قواعد الاشتباك” مع إيران ومع الحزب؟ هل من الطبيعي والمقنع أن يغتال الإسرائيليون أُناساً إيرانيين بالداخل الإيراني أو إيرانيين بالداخل السوري؟ أو فلسطينيين وقادة بالحزب بالداخل اللبناني وبطرائق مستفزّة؟ منذ البدايات قبل عدّة أشهر (وحتى قبل هجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة) كان نتانياهو يرغب في شنّ حربٍ على الحزب لإلهاء الداخل الإسرائيلي عن مشكلاته ومشكلات حكومته التي لا تنتهي. وليس من المستبعَد بعد تصاعدات الأيام الأخيرة أن ينجح نتانياهو في جرّ الحزب إلى الحرب الشاملة، حيث لم يعد الأمر يتطلّب وجود الجيش الإسرائيلي كلّه أو معظمه على حدود غزة. لكنْ ليس هذا هو ما أقصده من وراء هذه الخاطرة.
الذي أقصد أنّ إيران منذ ربيع عام 2013 ترغب في دفع كلّ أتباعها وأنصارها باتجاه الحرب وحتى بشار الأسد. كان الملحوظ وقتها ظاهراً تحسُّن العلاقات بين إيران وأميركا، وتبادل الأسرى، وحصول إيران على مليارات من أموالها المحتجزة، والعودة للتفكير بالنووي واتفاقيّاته. إنّما ابتداءً بالشهر الخامس من العام الماضي كثرت زيارات قادة الحرس الثوري ووزير الخارجية الإيراني لبيروت، ومجيء قادة حماس إلى بيروت للقاء نصر الله أيضاً. قبل ذلك كان تنظيم الجهاد الإسلامي (وقراراته إيرانية تماماً) قد بدأ حربه على الاحتلال في غزّة بمفرده وفقد كثيرين من عناصره كانوا يتحرّكون تحت تسميات مختلفة. وكان المتابعون يتساءلون لماذا لا تتابعه حماس الأقوى وتتصدّى هي أيضاً؟! وكثرت تصريحات نصر الله عن “وحدة الساحات”. والآن وبعدما تحمّست حماس وشنّت الحرب، وشُنّت عليها حرب الإبادة، صارت كلّ الميليشيات المتأيرنة وعلى رأسها الحزب داخلة في المواجهة. وما اكتفت إيران بذلك، فميليشياتها بالعراق هجمت على الأميركيين بالمباشر. والحرس الثوري شنّ هجومه على إربيل، كما شنّ هجومه على أفغانستان. واشتعلت الجبهات في سورية والعراق بين تركيا والأكراد بالبلدين، وبين إدلب والجيش السوري، وإدلب والإيرانيين أو ميليشياتهم بالميادين والبوكمال. وأخيراً بدأ السلوك الأميركي يتغيّر في سورية والعراق بالردّ بعنفٍ على الهجمات ضدّه، ثمّ باليمن لمنع تهديد الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر وبحر العرب. الإيرانيون تغيّر سلوكهم بشدّة، وكذلك الأميركيون، وليس بالوسع معرفة الأسباب إلاّ بالتخمين. فمنذ بداية عهد بايدن، كان السائد ترضية طهران وعدم الردّ على استفزازاتها، والاهتمام باستعادة الاتفاق النووي. وقد يكون التغيير الأميركي سببه الحرب في غزة ووجود أساطيل واشنطن في كلّ مكان، واستعادة الهيبة أو محاولة ذلك، مع بروز ضرورة ضرب الجميع من أجل الطلب من الجميع أن يهدأوا بما في ذلك إسرائيل.
المؤامرة الأميركيّة..!
يبقى السؤال الأكبر إذن في أسباب الهياج الإيراني منذ ستّة أشهر وليس ثلاثة! هناك مراقبون يذهبون (وبخاصةٍ في الأردن) إلى أنّ الإيرانيين يعتقدون أنّ هناك “مؤامرة” أميركية لضرب مناطق نفوذهم، ولذلك ثاروا أو أثاروا في كلّ مكان، ومن ذلك فتح جبهة على الحدود مع الأردن بالمخدّرات والسلاح وتجاهُل السلطات السورية لذلك أو المشاركة فيها، وبعد محاولات السعودية والأردن والجامعة العربية لاستعادة بشار الأسد دونما فائدة. وإذا كان ذلك صحيحاً، فمن أين أتى الانطباع الإيراني أنّ الحرب مشنونة عليهم، وأنّ الوقت للمواجهة وليس للمفاوضات؟
يقال إنّ الهياج الإيراني في الأصل من أسبابه منع التقارب العربي مع إسرائيل مع أنّني لا أُرجّحه، يقال الآن إنّه يراد تثبيت مناطق النفوذ، وتأمين الداخل، وإرغام الجميع على الاعتراف بإيران مفاوضاً أوّل في كلّ مشكلات المنطقة برّاً وبحراً.
إقرأ أيضاً: من غزّة إلى أميركا… “الرسالة والمسؤولية”
إنّ الأمر متوقّفٌ الآن على قدرة الأميركيين، وقد أبرزوا أنيابهم، على إيقاف الحرب على غزة، وتغيير المشهد بأطروحة الدولة الفلسطينية. لكنّ نتانياهو يريد استمرار الحرب على غزة، كما يريد استدراج الحزب (وإيران) للحرب، وهو الأمر الذي لا تريده الولايات المتحدة وشركاؤها حتى الآن لأنّها تكاد تشارك في الحرب على عدّة جبهات دون أن ترغب في ذلك. لكن ألا يجوز الآن أن تكون الاستجابة الأميركية لصيحات الحرب الإيرانية والإسرائيلية سبيلاً للتمكّن من فرض الدبلوماسية والتفاوض؟
بعد كلّ هذه السيناريوهات الممكنة والمستحيلة وبين تحرّشات الاستضعاف والاستفزاز، فإنّ الهجوم الإيراني في باكستان يظلُّ عصيّاً على التفسير.
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@