اجتمعت حكومة الحرب الإسرائيلية لمناقشة المقترح المصري لإنهاء الحرب على غزة حتى قبل أن يتسرّب نبأ وجود المقترح إلى الإعلام. ربّما هذه هي الإشارة الأوضح إلى أنّ الحرب وصلت إلى فصلها الأخير، على الرغم من أنّ إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو على إطالة أمدها ما استطاع، لأسباب تتعلّق بمستقبله السياسي.
يقضي المقترح المصري الذي كشفت تفاصيله صحيفة “وول ستريت جورنال”، بإقرار هدنة لعشرة أيام، يتمّ خلالها إطلاق الأسرى المدنيين الإسرائيليين مقابل إطلاق 140 أسيراً فلسطينياً، ثمّ إطلاق الأسيرات من الجيش الإسرائيلي مقابل أعداد أكبر من الأسرى الفلسطينيين، ثمّ الانتقال إلى وقف دائم لإطلاق النار بعد تشكيل حكومة فلسطينية في غزة من الفصائل الفلسطينية كافة، بما فيها حماس. وتلك صيغة تشبه صيغة القرار الدولي 1701 الذي أنهى حرب تموز 2006 في لبنان. فقد ظلّ الوجود العسكري لـ “الحزب” قائماً، لكن من دون “مظاهر مسلّحة” فوق الأرض جنوب الليطاني. وكان “الحزب” حينها مشاركاً في الحكومة اللبنانية.
وقف الأعمال العدائيّة
يتزامن ذلك مع أنباء عن رسائل ترسلها إسرائيل عبر القناة القطرية تحمل استعداداً للبحث في مقترحات لوقف الأعمال العدائية، من دون أن تبدي حتى الآن استعداداً لوقف شامل لإطلاق النار والانسحاب الكامل من القطاع. وعلّة ذلك أنّها تريد أن تحتفظ بمنطقة عازلة شمال القطاع، وبالسيطرة على نقطة الوصل بين شمال القطاع وجنوبه في شارع صلاح الدين، وأن تبقى يدها مطلقة في اغتيال قادة الفصائل الفلسطينية وتنفيذ الاقتحامات على نحو ما تقوم به في الضفة الغربية.
قد تكون المقترحات الإسرائيلية محاولة للتوفيق بين خشية نتانياهو من لحظة انتهاء الحرب والضغوط من عائلات الأسرى لفتح قنوات التفاوض. وقد بدا ذلك من خلال حديث عضو حكومة الحرب بيني غانتس في لقائه الأخير مع عائلات الأسرى عن وجود “مقترحات كثيرة” لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، فيما كان نتانياهو يؤكّد من أرض الميدان أنّ نهاية الحرب ليست قريبة.
قد تكون المقترحات الإسرائيلية محاولة للتوفيق بين خشية نتانياهو من لحظة انتهاء الحرب والضغوط من عائلات الأسرى لفتح قنوات التفاوض
لكن مهما تكن حدود التسوية فإنّ الحرب على غزة تدخل شوطها الأخير من دون أن تحقّق إسرائيل أيّاً من الهدفين الأساسيَّين اللذين يشدّد عليهما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو منذ الأيام الأولى: لم تقضِ على “حماس”، ولم تستعِد الرهائن بقوّة النار. وهكذا تستعدّ إسرائيل للعودة إلى التعايش مجدّداً مع قوة عسكرية اسمها “حماس” إلى جوار مستوطنات الجنوب ومنصة إنتاج الغاز قبالة عسقلان. لكنّ الأهمّ أنّها ستضطرّ إلى التعايش مع إحاطة إيران بها في الشمال وفي البحر الأحمر. ولن يستعيد ميناء إيلات نشاطه المعطّل بنسبة 85% إلا بحلٍّ يقدّمه الأميركيون لمعضلة التهديد الحوثي للملاحة في المياه الدولية.
فشل سياسة الردع الإسرائيليّة
قبيل بدء الهجوم البرّي على غزة، قال السفير الإسرائيلي السابق في الولايات المتحدة مايكل أورن في مقابلة على “سي إن إن” إنّ الأجدى لإسرائيل أن تبدأ بالحرب على “الحزب” وتؤجّل الحرب على “حماس”. وتلك وجهة نظر تمثّل تيّاراً في إسرائيل يرى أنّ غزة ليست أكبر الأخطار الاستراتيجية التي تواجهها إسرائيل، ببساطة لأنّ بالإمكان إبقاءها تحت السيطرة بالنظر إلى ضيق مساحتها الجغرافيّة وعدم وجود منفذ يصلها بمصادر الإمدادات العسكرية واللوجستية.
كان نتانياهو نفسه يتبنّى هذه النظرة إلى حكم “حماس” في غزة، بل كان يجد مصلحة في استمرار الانقسام الفلسطيني بين سلطة ضعيفة في الضفة الغربية وشبه حكومة محاصَرة في غزة. وكانت خطّته تقضي بالردع الأمنيّ والعسكري القاسي، مع إعطاء بعض المكاسب الماليّة والاقتصادية لإشغال حماس بشؤون الحكم، على أن يتفرّغ لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي من خلال مقاربة “السلام مقابل السلام” مع الدول العربية، مع دفن مبدأ “الأرض مقابل السلام” و”حلّ الدولتين”.
إلا أنّ هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) كان لحظة فشل ذريع لسياسة الردع الإسرائيلية ولسياجها الذي وصلت تكلفة آخر تحديث له إلى 1.1 مليار دولار. فتحوّلت استراتيجية نتانياهو إلى مقولة جديدة مفادها عدم إمكانية التعايش مع خطر أمنيّ مجاور للمستوطنات. ولو أنّ هذه الاستراتيجية نجحت في غزة لكان بالأحرى أن تنطبق على “الحزب”، خصوصاً أنّ 80 ألف مستوطن خرجوا من بيوتهم وهم يرفضون العودة إلى جوار الحزب.
هجوم 7 أكتوبر كان لحظة فشل ذريع لسياسة الردع الإسرائيلية ولسياجها الذي وصلت تكلفة آخر تحديث له إلى 1.1 مليار دولار
سقوط مقولة “عدم إمكانيّة التعايش”
لذلك فإنّ انتهاء الحرب من دون إنهاء “حماس” يعني عمليّاً سقوط مقولة “عدم إمكانية التعايش” مع وجودها العسكري. بل تبيّن للدولة المغرورة أنّ إلقاء 56 ألف طن من المتفجّرات لا يكفي للسيطرة على قطاع صغير معزول جغرافيّاً ومحاصَرٍ منذ سبعة عشر عاماً. فكيف الحال بها لو أنّها تواجه قوة أخرى في جغرافيا أكبر ومفتوحة على الإمدادات؟
في اليوم التالي للحرب، ليس وضع الفلسطينيين أفضل ممّا كان عليه قبل 7 أكتوبر. القبور في غزة تخالط الساحات العامّة وفناء المستشفيات والبيوت، وحجم النكبة الإنسانية والدمار سيتّضح أكثر عندما يبرد الجرح. لكنّ إسرائيل هي الأخرى أسوأ حالاً ممّا كانت عليه قبل الحرب على كلّ المستويات: العسكرية والسياسية والاقتصادية.
إسرائيل عبء على الأميركيّ
باتت إسرائيل معتمدة على الولايات المتحدة إلى الحدّ الذي يحوّلها من استثمار أميركي إلى عبء ثقيل. ففي المستوى العسكري، أظهرت الحرب مدى حاجة إسرائيل إلى استمرار الإمدادات العسكرية الأميركية، من القنابل الغبيّة بوزن ألفَي رطل إلى قذائف الدبّابات وحتى إلى بنادق “إم 16”. وبدأت ساحات الكونغرس تشهد للمرّة الأولى جدلاً حول فرض شروطٍ على إسرائيل في كيفية استخدام الأسلحة الأميركية، وانتقل بعض هذا النقاش إلى الإعلام الأميركي.
في المستوى السياسي، اتّضح مدى الاعتماد الإسرائيلي على الولايات المتحدة في تصويت مجلس الأمن في 8 كانون الأول على مشروع قرار وقف إطلاق النار الذي تقدّمت به الإمارات باسم المجموعة العربية. حينها صوّتت 13 دولة مع القرار وامتنعت بريطانيا عن التصويت، فكان لزاماً على واشنطن أن تستخدم الفيتو لإسقاطه، مع ما لذلك من أثمان.
هذا الاعتماد المفرط لا بدّ أن يقلق إسرائيل حين يتّضح أنّ لدى إدارة بايدن حسابات استراتيجية غير مطابقة لحساباتها في شأن العلاقة مع إيران. وقد تجلّت في كيفية التعامل مع تحريك إيران لميليشياتها في المنطقة، من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن. فقد بدا جليّاً أنّ الولايات المتحدة ليست في وارد التورّط في مواجهة إقليمية مفتوحة كرمى لعينَي إسرائيل. بل إنّ صحيفة “نيويورك تايمز” تكشف عن ضغوط مارستها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على نتانياهو في الأيام الأولى للحرب لعدم توسيع الحرب على الجبهة اللبنانية.
إقرأ أيضاً: حماس تفاوض المعارضة الفلسطينيّة على “اليوم التالي”؟
لقد قرأت إيران إشارات الضعف الأميركي جيّداً فأبقت التصعيد في جنوب لبنان تحت سقف محدّد بدقّة وحرّكت أوراقاً أخرى، ربّما أخطرها وأكثرها استراتيجيّة ورقة تهديد حركة التجارة الدولية في البحر الأحمر. تلك رسالة توجّهها إيران إلى الولايات المتحدة مباشرة، وربّما سياقها الأهمّ هو التفاوض الاستراتيجي الذي كان جارياً بين واشنطن وطهران قبل اندلاع الحرب.
لا شكّ أنّ تلك الرسائل أربكت الإدارة الأميركية وأظهرت مدى تخبّط مقاربتها الاستراتيجيّة للخطر الحوثي. فهي نفسها كانت تقلّل من هذا الخطر حين كانت السعودية تتصدّى وحدها للهجمات على ناقلات النفط والسفن التجارية، وتصرّ على رفع الحوثيين من قوائم الإرهاب، وها هي اليوم تعجز عن تشكيل تحالف دولي لردعهم، ربّما بسبب الارتباك الاستراتيجي ما بين الإصرار على عدم توسيع دائرة الصراع والرغبة باستعادة الهيبة والقدرة على الردع. وما كان لطهران أن تبادر إلى تحريك هذه الأوراق لولا ثقتها بأنّ رهان بايدن على الحوار معها لم يتزحزح، على الرغم ممّا اكتنفه من محطات تعثّر في السنوات الثلاث الماضية، لا سيّما حين انتهت المفاوضات النووية إلى الفشل في صيف 2022.
بدلاً من سؤال التعايش مع “حماس” و”الحزب” بجوار مستوطناتها، ستُطرح في إسرائيل أسئلة جديدة عن كيفية التعايش مع واقع جديد توسّع فيه إيران هامش حركتها مستندة إلى الصفقات مع إدارة بايدن تحت الطاولة وفوقها، أقلّه إلى أن يقول الناخب الأميركي قوله في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@