في العديد من مدننا وقرانا، تخلو الشوارع والأسواق التجارية من الناس، وكأنّ السلطة أمرت مواطنيها بعدم التجوّل.
معظم الناس يمضون ساعات الليل أمام الشاشات. قلّة قليلة من المشاهدين يستعينون على السهر بالمكسّرات.
كثيرون منهم وضعوا محارم ورقية في متناول أيديهم، ذلك أنّ مشاهد انتشال الجثث من تحت الركام، والأمّهات الهاربات على غير هدى للنجاة بأطفالهنّ الرضّع.. لا بدّ أن تملأ القلوب بالحزن والعيون بالدمع.
أصحاب ربطات العنق
بين المشاهد التي تتنافس الفضائيات على نشر أشدّها استدراراً للدموع، أي بين وجبة موت وأخرى، تجد الفضائيات مساحة لرجال يرتدون بذلات أنيقة وربطات عنق منسجمة معها، تسمّيهم الخبراء الاستراتيجيين، الذين يعلّقون على حرب مختلفة كلّياً عن الحروب التي شاهدوها، أو شاركوا فيها، مستعينين بالذكاء الصناعي الذي يؤدّي دور المساعد “للخبير” عبر خرائط تفصيلية لمواقع القتال ورسومات تقريبية للدبّابات المهاجمة والمحترقة، مع صور لاشتباكات يُرى فيها الجنود المهاجمون وهم يطلقون زخّات من رصاص على “لا هدف”، ويشاهَد بالمقابل المقاومون الذين تقول الفضائيات إنّهم يطلقون النار على الهدف من مسافة صفر.
نجوم الحرب الراهنة كثيرون، وسأكتب عنهم بعد أن تضع الحرب أوزارها، ويظهر الخيط الأبيض من الأسود، وفي جعبتي الكثير والشائق للحديث عنهم. وأسأل الله أن تكون نهاية الحرب نصراً
الحروب بالنسبة للفضائيات هي دجاجة تبيض ذهباً، فذائعة الصيت منها توسّع مساحة مشاهديها أضعاف أضعاف ما لديها من مشاهدين في زمن اللاحرب، وأمّا المتواضعة فتحظى بمشاهدين جدد يوفّرهم الريموت كونترول الذي ينتقل به الفضوليون من قناة إلى أخرى، ويمكن تسميتهم بمشاهدي الصدفة. وحين تبثّ الفضائيات تغطيتها عبر الأقمار الصناعية التي تغطّي الكرة الأرضية فالصغير كالكبير يحظى بمشاهدين أكثر.
نظراً لازدهار الفضائيات وتنافسها الشرس على اصطياد ملايين المشاهدين، فقد أصبحت كلّ واحدة منها أشبه بدولة، بعضها تصل موازنتها إلى ما هو أكبر من موازنة دولة صغيرة، وهو ما يوفّر لها بفعل غزارة الإنفاق “خبراء” يجيدون ترجمة توجيهات رئيس التحرير إلى لغة عسكرية، وينفّذون تعليماته بحيث يكون السياق والنتيجة متطابقين مع الأجندة التي تأسّست القناة لخدمتها.
مفكّر برتبة موظف
في زمن اللاحرب، توظّف شخصاً أو عدّة أشخاص بوظيفة مفكّر ممّن يجيدون تسويق أجندات المنفق على القناة بلغة احترافية تنطلي على المشاهدين الكرام أو بعض منهم.
أنتجت الفضائيات لكلّ حرب نجماً أو عدّة نجوم، تسطع أثناء العمليات الحربية، إلا أنّها تذوي وتختفي حين تضع الحرب أوزارها، وخصوصاً لو أسفرت عن هزيمة أو عن نصر ملتبس.
قبل زمن الفضائيات، كان نجم النجوم المعلّق الذي كانت كلماته أقوى وأسرع من الرصاص، وهو مدير صوت العرب أحمد سعيد، الذي انطفأ يوم إعلان “النكسة” بنفخة من القيادة السياسية، التي ارتأت إزالته في سياق إزالة آثار العدوان.
في زمن الفضائيات سطع نجم المراسل العالمي بيتر آرنت الذي كان المصدر الوحيد لتطوّرات حرب الخليج والذي تعزّزت مكانته ونجوميّته، حين تمكّن من إجراء مقابلة مع صدام حسين في عزّ الحرب، لم يستطع غيره الحصول عليها.
في الزمن ذاته سطع نجم وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحّاف الذي كان الجمهور العربي، والجمهور الأجنبي الذي يقرأ تصريحاته مترجمة، ينتظرانه بفارغ الصبر، فهو المقاول النشط لإنجازات العراق في تلك الحرب، وصاحب المفردات الجاذبة للجمهور، ومنها وصفه لقوات التحالف “بالعلوج”.
اختفى الصحّاف مع انتهاء الحرب تلك، وكان المسؤول العراقي الوحيد الذي لم يُعتقل، وحين سُئل عن بلاغاته المنتصرة قال:
“لا شيء من عندي كنت أتلقّى توجيهاتي من القيادة”.
إقرأ أيضاً: إعادة تأهيل أميركية بريطانية للسلطة الفلسطينيّة
الحروب تنتج نجوماً… والفضائيات تسوّق ما أُنتج، والناس الذين ليس لهم من الحرب إلا مشاهدتها على الشاشات فيتعاملون مع نجوم الفضائيات كتعاملهم مع مباراة فريقهم في كرة القدم، إذ يحبّون رؤية النجم الذي ينعش روحهم ويبثّ الأمل بالنصر، ولا يحبّون من يثبط العزيمة حين يجازف ويقول مثلاً: لننتظر نهاية الحرب لنرى النتيجة. أمّا ضحايا الحروب من ذوي القتلى والجرحى والبيوت المدمّرة فلا يسعدون غالباً بأقوال الخبراء.
نجوم الحرب الراهنة كثيرون، وسأكتب عنهم بعد أن تضع الحرب أوزارها، ويظهر الخيط الأبيض من الأسود، وفي جعبتي الكثير والشائق للحديث عنهم. وأسأل الله أن تكون نهاية الحرب نصراً.