“في اليوم التالي لانتصار إسرائيل في حرب حزيران 1967، كتب إسحاق رابين عن الحاجة إلى “تحويل ثمار هذه الحرب إلى سلام”. رابين، بصفته رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يومها الذي طوّر الاستراتيجية والتكتيكات التي سمحت بتحقيق هذا النصر، أدرك أنّ الصراع الذي ينتهي دون تحقيق سلام هو مجرّد فترة فاصلة بين جولة وأخرى من الحرب”.
يرى الدبلوماسي الأميركي السابق دانيال كيرتزر أنّ على صانعي السياسات الإسرائيليين والأميركيين الأخذ بهذا الكلام عند التفكير في اليوم التالي للحرب ضدّ حماس في غزة.
يؤكّد كيرتزر في مقالته بمجلّة “أتلانتيك” أنّه عندما نفكّر في “اليوم التالي” يجب أن ندرك أنّ الإجراءات المتّخذة اليوم ستؤثّر على الخيارات المستقبلية. ويعتبر أنّ “نيّة إسرائيل المعلنة لتدمير حماس، وهو أمر غير محتمل، تشير إلى استمرار القتال وزيادة الخسائر في صفوف المدنيين. كما أنّ استراتيجية بقاء حماس والاحتفاظ بقدراتها تؤدّي إلى النتيجة نفسها: صراع طويل الأمد. ولهذا السبب أصبح إنهاء القتال أكثر إلحاحاً بمجرّد أن تدمّر إسرائيل قدرات حماس بشدّة”.
وينتقد السفير الأميركي الأسبق لدى إسرائيل عودة البعض إلى طرح خطّة ترامب 2020 (تفويض إسرائيل ضمّ 30% من الضفة الغربية، وإنشاء دولة فلسطينية في مناطق غير متجاورة في الضفة الغربية، وإعطاء الحقّ الفعليّ لإسرائيل في تقرير متى يمكن إنشاؤها) كأساس للمحادثات حيث إنّها تقضي على عملية صنع السلام حتى قبل أن تبدأ. ويؤكّد الحاجة إلى استراتيجية دبلوماسية تقدّمية تعمل على مستويَين:
1- ضمان الأمن داخل غزة بعد توقّف القتال وتشكيل حكومة انتقالية حتى تتمكّن السلطة الفلسطينية من تولّي زمام الأمور.
2- السعي بشكل جادّ إلى إنهاء الاحتلال وبدء حلّ الدولتين، وهي دبلوماسية تتطلّب قيادة أميركية لجمع إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية والمجموعة الرباعية العربية (مصر والأردن والسعودية والإمارات) والحلفاء الأوروبيين الرئيسيين، مع إمكانية طلب المشورة والدعم من الاتحاد الإفريقي والهيئات الإقليمية الأخرى لإضفاء مصداقية وموافقة أوسع على هذا الجهد.
يحدّد الدبلوماسي الأميركي، الذي شغل أيضاً منصب سفير بلاده لدى مصر سابقاً، مرحلتين لضمان الأمن في غزة
مرحلتان لضمان الأمن:
يحدّد الدبلوماسي الأميركي، الذي شغل أيضاً منصب سفير بلاده لدى مصر سابقاً، مرحلتين لضمان الأمن في غزة:
– المرحلة الأولى: الأولوية فيها لإعادة إعمار غزة لضمان الأمن والاستقرار، وتمهيد الطريق أمام استعادة السلطة الفلسطينية للحكم، على أن تبدأ هذه العملية الشاقّة بنزع فتيل الصراع، والمراقبة والمحاسبة على أيّ خرق للهدنة، وحينئذ تتيح الترتيبات الأمنيّة استعادة القانون والنظام الأساسي. ويتمّ في الوقت نفسه استئناف المساعدات الإنسانية وزيادتها وضمان سلامة إيصالها للمدنيين فقط، وربّما عقد مؤتمر دولي لتيسير تنفيذ تعهّدات البلدان المانحة بإعادة إعمار غزة. ويقول إنّه يمكن لهذه المرحلة أن تعتمد على آلاف الموظفين المدنيين وضباط الشرطة الذين يعملون في السلطة الفلسطينية. ولأنّ هؤلاء لن يقبلوا العمل تحت إشراف إسرائيل، سيتعيّن على هيئة تابعة للأمم المتحدة أو مجموعة دولية أخرى الإشراف على توفير الخدمات المدنية الأساسية. ويرجّح أن تحتفظ إسرائيل بوجود عسكري في غزة خلال هذه المرحلة، لكن سيتعيّن عليها البدء بالتخطيط للانسحاب الكامل لقوّاتها.
– المرحلة الثانية: تشمل تدابير لتحقيق الاستقرار، من مثل إنشاء آليّات أمنيّة تضمن لإسرائيل عملية انسحاب قواتها، والبدء بمشاريع إعادة الإعمار التي تسمح للمدنيين بالعودة إلى المنازل التي أُعيد بناؤها. وخلال هذه المرحلة، ينبغي أن يجتمع فريق اتصال يمثّل منظمة التحرير الفلسطينية والمجموعة الرباعية العربية والأمم المتحدة لمناقشة المبادئ والجدول الزمني للانتقال إلى نظام السلطة الفلسطينية في غزة. يمكن لهذا الفريق إنشاء هيئات استشارية للإشراف على الأمن والنظام العامّ وعلى تخصيص السلع والخدمات، وإنشاء هيئة إدارة مؤقّتة، والاتفاق على جدول زمني وعملية لنقل التفويض الكامل إلى السلطة الفلسطينية، والتعجيل بإعادة الإعمار، واستكشاف إمكانية عقد مؤتمر دستوري، والبدء بعملية نزع سلاح مقاتلي حماس وإعادة دمجهم في الحياة المدنية، على أن يتمّ الانتقال من مرحلة إلى أخرى وفقاً لجدول زمني متّفق عليه، فيرى الفلسطينيون أنّ حياتهم يُعاد بناؤها ويرى الإسرائيليون ظهور حكم وأمن موثوق بهما.
فرصة للتسوية السياسيّة
يعتبر كيرتزر أنّه “حتى لو حقّقت هذه الأجندة الطموحة لغزة هذه الأهداف، فلن يكفي ذلك للحصول على دعم الفلسطينيين والعرب. وإذا كانت التدابير الانتقالية هي الوحيدة التي يتعيّن تنفيذها، فسيعتبرها الفلسطينيون بمنزلة عودة إلى الوضع الراهن غير المقبول: استمرار الاحتلال والحصار الإسرائيليَّين، علاوة على إنكار حرّياتهم. كما سيؤدّي اتّباع نهج يقتصر على إعادة إعمار غزة إلى بناء قلعة رمليّة متقنة تتلاشى بمجرد إعادة تجمّع الإرهابيين وإعادة تسلّحهم واستئناف هجماتهم، لكنّ هذه المرّة ضدّ كلّ من السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
يستبعد كيرتزر أن تحصل هذه الخطة على دعم الحكومة الإسرائيلية، وحتى السلطة الفلسطينية أيضاً، لكن يعتبر أنّها ستضع أساساً ثابتاً للسياسة والدبلوماسية الأميركيَّتين، وتهيّئ الظروف للمفاوضات عندما يمكن استئنافها
لذلك النهج الوحيد “لليوم التالي” الذي يمكن أن يكون مستداماً هو، في رأيه، تحويل حالة ما بعد الحرب إلى فرصة للتسوية السياسية التي من شأنها إنهاء الاحتلال وإعطاء الفلسطينيين الفرصة لتحقيق تقرير المصير، على أن تبدأ بالتوازي مع جهود تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار في غزة. ومن أجل ذلك يجب على الرئيس الأميركي، وفقاً لكيرتزر، تحقيق أربعة أمور:
1- تحديد النهج الأميركي لهذه العملية، والعزم على التحرّك نحو حلّ الدولتين وتحديد الإجراءات المهمّة التي ستتّخذها الولايات المتحدة، بما في ذلك إعادة النظر في الإجراءات الكيدية للإدارة السابقة: إعادة إنشاء القنصلية الأميركية العامّة في القدس الشرقية على أن تعمل بشكل مستقلّ عن السفارة الأميركية، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن العاصمة، وزيادة المساعدة للسلطة الفلسطينية لإعادة تطوير قدراتها.
2- مطالبة إسرائيل بوضع حدّ لعنف المستوطنين في الضفة الغربية، وعدم السماح لهم بطرد الفلسطينيين من ديارهم في القدس، ووقف المزيد من النشاط الاستيطاني.
3- حثّ السلطة الفلسطينية على إنهاء الرعاية الاجتماعية المدفوعة لأسر الإرهابيين، والتشديد على مسؤوليّتها في القضاء على العنف المنظّم ومنع ظهور جماعات عنيفة في المناطق التي تسيطر عليها، وحثّها على إجراء انتخابات جديدة في جميع الأراضي المحتلّة بمجرّد أن تسمح بها عملية إعادة إعمار غزة.
4- تجديد التزام إدارته بالمبادئ التي أرستها الجولات الدبلوماسية السابقة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منذ معايير كلينتون في عام 2000.
يستبعد كيرتزر أن تحصل هذه الخطة على دعم الحكومة الإسرائيلية، وحتى السلطة الفلسطينية أيضاً، لكن يعتبر أنّها ستضع أساساً ثابتاً للسياسة والدبلوماسية الأميركيَّتين، وتهيّئ الظروف للمفاوضات عندما يمكن استئنافها.
يقرّ الدبلوماسي بصعوبة تحقيق كلّ هذا، مع ضعف السلطة الفلسطينية وعدم ميل محمود عباس لإصلاحها أو إجراء الانتخابات أو التخطيط لمن قد يخلفه، وحيث ستكون فترة ما بعد الحرب بالنسبة لإسرائيل مخصّصة للحساب السياسي على الإخفاقات الاستخبارية والأمنيّة التي أدّت إلى 7 أكتوبر (تشرين الأول)، ويحاول نتانياهو التمسّك بالسلطة وإعادة تشكيل النظام القضائي الإسرائيلي وفتح الطريق أمام ضمّ الأراضي المحتلّة، بالإضافة إلى استحالة تأييد معظم الإسرائيليين لتجميد المستوطنات أو الانخراط في عملية سلام مع الفلسطينيين، وحيث بالنسبة لبايدن هناك معركة انتخابية شاقّة ستكون سياسة غزة والسلام التي أقترحها موضع جدل، وقد يعتمد الجمهوريون عليها لمهاجمته، وسيرى البعض في معسكره فائدة ضئيلة من تبنّيها.
إقرأ أيضاً: فريدمان من الخليج: لا إعمار لغزّة دون حلّ الدولتين
لكنّ بايدن، يخلص كيرتزر إلى القول، أظهر دبلوماسية جريئة في أجزاء أخرى من العالم، ويمكنه بالنسبة للعلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية تعزيز آفاق السلام، وضمان أمن إسرائيل، والردّ على المظالم الفلسطينية. هذا النهج التحويلي فقط هو الذي يتيح إمكانية تغيير المسار الكارثي لهذه العلاقات القائمة على استمرار الاحتلال والقمع والتطرّف والصراع، وسلسلة لا نهاية لها من الصدمات ومأساة عانى منها هذان الشعبان في الأشهر الأخيرة. ويختم: لدينا خيار تجربة شيء مختلف.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا