طرابلس أعطت “العلامة الكاملة” للتمديد لقائد الجيش

مدة القراءة 7 د


المناخ السياسي الذي صاحب عملية إقرار المجلس النيابي قانون التمديد “الاستثنائي” لمدّة سنة لقائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنية الأخرى، أدّى إلى حرف النقاش من عناوين وطنية مثل “الحفاظ على الاستقرار” و”حماية المؤسسة العسكرية”، نحو شخص العماد جوزف عون نفسه.

وهذا ما أبرز إشكاليةً تُعتبر من أهمّ خصائص دول ما يعرف بـ”العالم الثالث”، وهي تصنيف القوات المسلّحة بين “مؤسسة الدولة” و”جيش النظام”. يضاف إليهما انزياح المصطلح الثاني نحو رأس السلطة، فيصير عندها “جيش الحاكم”، كما هو الحال في بعض الدول مثل سوريا، التي يصعب الفصل فيها بين الجيش والنظام ورأس هذا النظام، ليغدو اسم قائد الجيش أو رئيس الأركان فيه تفصيلاً ليست له أهمّية.

شكّل “تكتّل الاعتدال الوطني” رأس الحربة في معركة التمديد للمدير العامّ لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، الذي كان يواجه صعوبة في تمريره في مجلس الوزراء بسبب الموقف السلبي لوزير الداخلية

التمديد للقائد أم لاستقرار المؤسّسة؟

على الرغم من أنّ القوى السياسية، سواء تلك التي اقترحت قانون التمديد أو وافقت عليه أو عارضته، ارتكزت في موقفها على أبعاد وطنية ومؤسّساتية في الشكل، إلا أنّه يصعب حسم ذلك في المضمون. ذلك أنّ الهامش بين شخص القائد والمؤسسة العسكرية رفيع جداً، ولا سيما أنّ الحديث عن الجيش في المجتمعات العربية خاصة يدفع إلى الأذهان مباشرة ظاهرة “العسكرة”، التي هي واحدة من أبرز الظواهر السوسيولوجية في العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية. ومفهوم “العسكرة” ليس قاصراً فقط على الانقلابات العسكرية، وهو أمر غير متاح في لبنان أصلاً بحكم توازناته المذهبية والطائفية الحسّاسة، بل يشمل أيضاً تحوّل مؤسّسة الجيش إلى لاعب سياسي لديه أفضليّة دائمة على المدنيين في صنع القرار بحكم عوامل عديدة تتباين بين دولة وأخرى. ولا يغيب عن الأذهان أنّ آخر ثلاثة رؤساء للجمهورية في لبنان كانوا قادة لجيشه. فإذا انتقل قائد الجيش الرابع إلى قصر بعبدا، قد يصير ممكناً التساؤل عمّا إذا كان نظام الحكم في لبنان تحوّل إلى عسكري. إذ تكون قيادة الجيش قد تحوّلت حتماً إلى معبر لرئاسة الجمهورية. ومعها يصير قائد الجيش هو “الحاكم”، كما في الدول العسكرية. وربّما يكون هذا انقلاباً مستمرّاً ومتتالياً على الدستور، بحجّة “لمرّة واحدة”، كلّ ستّ سنوات.

هزيمة باسيل… وانتصار جعجع؟

إذا كانت أغلب العناوين الإعلامية والصحافية التي تلت إقرار التمديد تحدّثت أو ألمحت إلى خسارة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، الذي كان أشرس المعترضين على التمديد لعون، فإنّ مردّ ذلك هو قيام الأخير بشخصنة موقفه “الرفضيّ”، على الرغم من محاولة إلباسه رداءً وطنياً ومؤسّساتياً.

في عمق هجوم باسيل على قائد الجيش، الذي بلغ حدّ اتّهامه بالخيانة، يمكن ملاحظة أنّ ثمّة مزجاً كاملاً بين الجيش والنظام ورئيس الجمهورية، من خلال تكرار حديثه عن تنفيذ العماد جوزف عون انقلاباً على السلطة السياسية إبّان ثورة 17 تشرين، فقط لأنّ الأخير لم يقُم بفتح الطرقات بالقوّة حينها.

على الرغم من عدم صدور أيّ قرار أو توصية بذلك من قبل الحكومة أو المجلس الأعلى للدفاع، الذي كان الحكومة المفضّلة لرئيس الجمهورية السابق ميشال عون، يظهر من ذلك أنّه وتيّاره كانا ينظران إلى الجيش على أنّه جيش ميشال عون لا الدولة ولا حتى النظام.

في المقلب الآخر، فإنّ القوات اللبنانية استندت في موقفها الداعم للتمديد إلى كونه تمديداً للمؤسّسة لا للشخص، حفاظاً على الاستقرار والمؤسّسات. بيد أنّها في الأساس تقدّمت باقتراح قانون مفصّل على قياس شخص واحد، علاوة على أنّها أعلنت على لسان رئيسها ونوابها غير مرّة أنّها تدعم ترشيح العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية.

السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان موقف التيار الوطني الحر، أو موقف القوات اللبنانية، سيبقى كما هو عليه فيما لو كان قائد الجيش شخصية أخرى من عيّنة إميل لحود مثلاً؟

ينبغي على العماد جوزف عون عدم الركون إلى لافتات التأييد والتبجيل له، التي انتشرت بكثافة في شوارع طرابلس وضواحيها عقب إقرار التمديد. فهي تعبّر عن ثقافة مجتمعية استرضائية تنبثق ممّا أشرنا اليه في المقدّمة

طرابلس مع الشرعيّة 100%

الحال نفسه ينسحب على مواقف باقي القوى من التمديد، وإن كان ذلك لا يلغي أنّ الفائز الأول هو مفهوم الدولة واستمرارية مؤسّساتها بمعزل عن الأشخاص، ولا سيما مع الانسداد السياسي المزمن الذي نعيشه، والاشتباكات الدائرة على الحدود جنوباً والتي تتوسّع باطّراد.

ما يجدر التوقّف عنده في هذا السياق بالتحديد هو تصويت مدينة طرابلس بـ”العلامة الكاملة” لمصلحة الشرعية ومؤسّساتها العسكرية والأمنيّة. إذ صوّت نوابها الثمانية، على اختلاف تموضعهم السياسي، وتنوّعهم الطائفي والمذهبي، من أجل التمديد لقادة الأجهزة الأمنيّة.

هذا الموقف الذي تفرّدت به “الفيحاء” دون باقي المدن، يكتسب أهمية كبرى بالنظر إلى سيف الاتّهام المسلّط على رقاب شبابها منذ سنوات بالتمرّد الدائم على قوى الشرعية، والعلاقة الملتبسة معها وخاصة من قبل الجيش، وهو ما تُرجم بعشرات الملفّات المفتوحة في المحكمة العسكرية.

لكي لا يضيع هذا الموقف الجامع في بحر تأويلات التصويت السنّي من أجل التمديد للّواء عماد عثمان على رأس مؤسّسة قوى الأمن، لا بدّ من الإقرار بأنّ العماد جوزف عون انتهج سياسة انفتاح غير تقليدية في طرابلس، من خلال التركيز على مفهوم الأمن الاجتماعي، والتعاون مع مختلف القوى المجتمعية الفاعلة لمحاربة غسل الأدمغة الفتيّة بالمخدّرات والإرهاب.

كان لهذا الأمر أثر إيجابي على العلاقة بين مؤسّسة الجيش والمجتمع المحلّي، وإن كانت أدران الماضي لا تزال تعرقل هذا التطوّر بعض الشيء. الأمر الذي يؤكّد مرّة جديدة مدى صعوبة الفصل بين المؤسسة وشخص القائد في مثل هذه الحالات التي هي أصلاً استثنائية.

مع ذلك، ينبغي على العماد جوزف عون عدم الركون إلى لافتات التأييد والتبجيل له، التي انتشرت بكثافة في شوارع طرابلس وضواحيها عقب إقرار التمديد. فهي تعبّر عن ثقافة مجتمعية استرضائية تنبثق ممّا أشرنا اليه في المقدّمة.

لو كانت تلك اللافتات صادقة حقّاً لارتفعت قبل الجلسة، لمحاولة تشكيل رأي عامّ شعبي ضاغط على النواب. وليس سرّاً أنّ هذه اللافتات نفسها كانت سترتفع حاملة اسم القائد الجديد، أيّاً كان اسمه، فيما لو تمّ تمرير التعيين في مجلس الوزراء.

القائد وشمال الرئاسة

شكّل “تكتّل الاعتدال الوطني” رأس الحربة في معركة التمديد للمدير العامّ لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، الذي كان يواجه صعوبة في تمريره في مجلس الوزراء بسبب الموقف السلبي لوزير الداخلية.

على الرغم من الفرز السنّي، إلا أنّ تكتّل الاعتدال لم يُترك وحيداً، فقد حضر النائب فيصل كرامي الجلسة البرلمانية، ورفض الانسحاب كما فعل رفيقاه في التكتّل حسن مراد ومحمد يحيى، انسجاماً مع الانسحاب التكتيكي لكتلة الحزب. وأسهم مع رفيقيه الآخرين في التكتّل، نائبَي جمعية المشاريع طه ناجي وعدنان طرابلسي، في إكمال النصاب القانوني. إذ كان عدد النواب الحاضرين عند طرح قانون التمديد 68 نائباً.

إقرأ أيضاً: باسيل في طرابلس: “حُلم” البترون… وظلال “عداوة” قديمة

ومثلهم أيضاً نائب الضنّية جهاد الصمد، الذي صوّت بنسبة 50% من خلال عدم الانسحاب من الجلسة. أمّا اعتراضه المدوّن في المحضر، فهو نابع من حرصه الدائم على الانسجام مع مواقفه السابقة، خاصة أنّه يرأس لجنة الدفاع والداخلية والبلديات النيابية، وكان قد أعلن قبل أيام فقط، في مجلس النواب بالذات، أنّ اقتصار التمديد على قادة الأجهزة الأمنيّة مخالف لمبدأ شمولية القانون.

إذا ما استثنينا نواب التيار الوطني الحر الأربعة، وبينهم رئيسه جبران باسيل، فإنّ نواب الشمال كانوا إلى جانب التمديد لقائد الجيش، ما خلا النائب السنّيّ الأول على صعيد الأصوات محمد يحيى، الذي يطرح موقفه المتفرّد هذا علامة استفهام، وربّما يكون يردّ ديناً انتخابياً للحزب.

فهل تكون لهذا التأييد الجارف لممثّلي الشماليين في البرلمان انعكاسات على المعركة الرئاسية؟

الشمال يلعب دور رأس الحربة في الانتخابات الرئاسية، في ظلّ أنّ المرشّحين الثلاثة الذين جرى ترشحيهم هم من الشمال (رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، والنائب ميشال معوض، والوزير الأسبق جهاد أزعور)، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الناخبين المارونيَّين الأبرزَين والأقويَين، رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل؟

مواضيع ذات صلة

الجماعة الإسلامية: انقلاب يقوده الأيّوبيّ ومشعل

إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في “الجماعة الإسلامية”، فعليك أن تعرف ماذا يجري في حركة حماس،  وعلاقة الفرع اللبناني بالتحوّلات التي تشهدها حركة حماس……

لا تعهّد إسرائيليّاً بالانسحاب

قابل مسؤولون إسرائيليون الشكاوى اللبنانية من الخروقات المتمادية لقرار وقف إطلاق النار، بسرديّة مُضلّلة حول “الانتشار البطيء للجيش اللبناني في جنوب الليطاني، بشكل مغاير لما…

هل يستبدِل برّي حليفه فرنجيّة بأزعور؟

يدور الاستحقاق الرئاسي في حلقة مُفرغة، أحد أبرز عناصر كَسرِها التوصّل داخلياً إلى تسوية تَمنع الثنائي الشيعي من أن يكون في جلسة التاسع من كانون…

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…