اتّشحت الكويت بالسواد مع رحيل أميرها الشيخ نوّاف الأحمد الجابر الصباح الذي يعدّ من أبرز الأقطاب الذين عاصروا بناء الدولة منذ الاستقلال في عام 1962، وساهموا في إرساء دعائمها وتحقيق نهضتها، واشتُهر بتواضعه وزهده وتسامحه، حتى أُطلق عليه اسم “أمير التواضع” و”أمير العفو”.
هو الأمير الـ16 للكويت والابن السادس للأمير الـ10 الشيخ أحمد الجابر الصباح الذي حكم الكويت من 1921 إلى 1950. وتدرّج في المناصب على مدى 6 عقود وصولاً إلى تولّيه الإمارة.
يُعدّ الأمير الراحل من الشخصيات التي حظيت بالإجماع، على المستويين السياسي والشعبي، بالنظر إلى ما كان يتمتّع به من صفات إنسانية، وجدارة في تولّي المسؤوليّات.
عُرف بقُربه من الناس وحرصه على تلبية احتياجاتهم، حيث كانوا يشاهدونه في مناسباتهم المختلفة ويستقبلونه في ديوانيّاتهم، سواء في الأفراح أو التعازي أو المناسبات العامّة والخاصة.
كما اشتهر الراحل بزهده وارتياده المسجد وحيداً من دون مرافقة، وكان يقود سيارته بنفسه، فيما كان المصلّون يحيطون به ويتبادلون معه الأحاديث ويلتقطون الصور التذكارية.
لقد آمن الشيخ نوّاف بأنّ قوّة الكويت في وحدة أبنائها، وأنّ تقدّمها وتطوّرها مرهون بتآزرهم وتلاحمهم، كما كان يشدّد دائماً على أنّ الناس سواسية أمام القانون، وأنّ الكويت مسؤولية الجميع.
يُحسب للأمير الراحل أنّ الحكومات في عهده استنّت سُنّة جديدة غير مسبوقة في تعاملها مع مجلس الأمّة تقوم على عدم التدخّل في شؤونه، من خلال عدم التصويت في انتخابات رئيسه ونائبه ولجانه
البدايات
درس الأمير الراحل في مدارس الكويت المختلفة، وهي مدارس حمادة وشرق والنقرة، ثمّ في المدرسة الشرقية والمباركية، وواصل دراساته في أماكن مختلفة من الكويت، وتميّز بالحرص على مواصلة تحصيله العلمي.
بداية المسؤوليات كانت في عام 1962 عندما تولّى منصب محافظ لمنطقة حولي، واستمرّ فيه لحوالي 16 سنة، ثمّ تولّى منصب وزير الداخلية في عام 1978، وبعدها وزير الدفاع في عام 1988.
في أوّل حكومة تمّ تشكيلها بعد حرب التحرير من الاحتلال العراقي في نيسان 1991، تمّ اختيار الشيخ نوّاف لتولّي وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي كان لها دور كبير في مساندة المجتمع ولملمة الجراح التي خلّفها الغزو العراقي.
في 1994، أصبح الشيخ نوّاف نائباً لرئيس الحرس الوطني، وهو منصب مهمّ في هيكلية الدولة، بالنظر إلى الدور الذي يلعبه “الحرس” في مساندة مختلف أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، والاحترام الكبير الذي يحظى به شعبياً، في ظلّ انضباطه وحرفيّته وقدراته.
من الداخليّة إلى ولاية العهد
بعد ذلك بنحو 9 سنوات، وتحديداً في عام 2003، عاد الشيخ نوّاف لتولّي منصب وزير الداخلية مجدّداً، فترك بصمات كبيرة في الوزارة وعمل على تطويرها ووضع استراتيجية لمنظومة أمنيّة متكاملة، مع تحديث القطاعات الأمنيّة.
أمّا التحوّل الكبير في مسيرته، فقد سُجّل في 7 شباط 2006، عندما أصدر الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد أمراً أميريّاً بتزكيته وليّاً للعهد، ثمّ بايعه مجلس الأمّة بالإجماع بعد 3 أيام.
اشتهر الراحل بزهده وارتياده المسجد وحيداً من دون مرافقة، وكان يقود سيارته بنفسه، فيما كان المصلّون يحيطون به ويتبادلون معه الأحاديث ويلتقطون الصور التذكارية
بقي الشيخ نوّاف ملازماً للشيخ صباح الذي أصدر قبيل دخوله المستشفى في تموز 2020 أمراً بالاستعانة به لممارسة بعض الاختصاصات الدستورية للأمير، وصولاً إلى 29 أيلول 2020 عندما تولّى الإمارة بعد وفاة الشيخ صباح، حيث نادى به مجلس الوزراء أميراً وفق الدستور والمادة 4 من قانون توارث الإمارة، ثمّ أدّى اليمين الدستورية في اليوم التالي أمام مجلس الأمّة.
إرث صباح الأحمد
ساهم الشيخ نوّاف في الكثير من الملفّات، من وراء الكواليس، وأهمّها على الإطلاق ملفّ المصالحة الخليجية، الذي واكب فيه جهود الأمير الراحل التي بدأت منذ اندلاع الأزمة في 2017، وأكملها بعد تولّيه الإمارة، وتُوّجت جهوده بطيّ صفحة الخلاف في قمّة العلا التي استضافتها السعودية في كانون الثاني 2021.
على المستوى الخارجي، تابع الشيخ نوّاف مسيرة الشيخ صباح الذي كان مدرسة في الدبلوماسية وفي مدّ الجسور مع دول العالم، من بوّابة العلاقات الإنسانية القائمة على مساعدة الدول المحتاجة ومساندة الدول النامية، وتعزيز العلاقات مع جميع الدول على قاعدة عدم التدخّل في شؤونها الداخلية أو محاولة ربط المساعدات بأيّ شروط.
في خطابه الذي ألقاه بعد أدائه القسم أميراً للكويت، رسم الشيخ نوّاف خطّ مسيرته على خطى الشيخ صباح، بتأكيده أنّ الشيخ صباح “ترك إرثاً خالداً يشهد له الجميع داخلياً وخارجياً”.
سياسة جديدة
على المستوى الداخلي، كان للأمير الراحل رؤية خاصة للمسار السياسي. فقد عمل من خلال قراراته وخطاباته على استيعاب المعارضين للحكومة، ودَفْع السلطتين التشريعية والتنفيذية إلى خيارات التعاون بعيداً عن الصدام.
لهذه الغاية، قام بحلّ مجلس الأمّة مرّتين، وجرت الانتخابات التشريعية ثلاث مرّات في عهده، على اعتبار أنّ الشعب يقرّر مصيره في المنعطفات والأزمات.
أُجريت الانتخابات الأولى بتاريخ 5 كانون الأول 2020، ودعا الأمير في خطابه أمام مجلس الأمّة الجديد (حينذاك) إلى وضع برنامج إصلاحي شامل لمواجهة التحدّيات.
ثمّ جرت الانتخابات الثانية في أيلول 2022 بعد حلّ مجلس الأمة إثر أزمة سياسية، وتلتها انتخابات ثالثة بعد أقلّ من سنة في حزيران 2023 بعدما تمّ حلّ المجلس للمرّة الثانية، على إثر عودته بموجب حكم من المحكمة الدستورية التي أبطلت انتخابات مجلس 2022، وأعادت مجلس 2020.
يُحسب للأمير الراحل أنّ الحكومات في عهده استنّت سُنّة جديدة غير مسبوقة في تعاملها مع مجلس الأمّة تقوم على عدم التدخّل في شؤونه، من خلال عدم التصويت في انتخابات رئيسه ونائبه ولجانه (على اعتبار أنّ الوزراء الـ15 في الكويت يُعتبرون أعضاء في مجلس الأمّة، وبذلك يضافون إلى الأعضاء الـ50 المنتخبين ليصبح المجلس قانوناً مكوّناً من 65 عضواً).
إقرأ أيضاً: حكومة الكويت “مُجمّدة” بقرار “سياديّ”
العفو والتسامح
في إطار فتح “صفحة جديدة” والتخلّص من رواسب الماضي، أصدر الأمير الراحل عفوَيْن خاصّيْن عن معارضين ومجموعات مختلفة من المواطنين المدانين بجرائم جنح وجنايات: المرّة الأولى في 30 أيلول 2020، والثانية قبل وفاته بفترة قصيرة، وتحديداً في 27 تشرين الثاني 2023.
ما رامَه الأمير من خلال العفوين، اللذين جاءا بدفع من رئيس الحكومة أيضاً، هو طيّ صفحة الخلافات التي تُنغّص التعاون بين الحكومة والمجلس، من خلال إرضاء تكتّلات نيابية وازنة، وهو ما تحقّق بالفعل، من خلال “شهر العسل” الذي عاشته السلطتان منذ الانتخابات الأخيرة في حزيران 2023، وأفضى إلى تمرير مجموعة كبيرة من القوانين المهمّة، وعبور رئيس الوزراء ووزير التجارة استجوابَيْن في المجلس، من دون أيّ عوائق، بالنظر إلى أنّ الحكومة باتت تحظى بغالبية نيابية وازنة وصلبة.
للأمير الراحل 5 أبناء هم: الشيخ أحمد رئيس الوزراء، والشيخ سالم رئيس جهاز أمن الدولة، والشيخ فيصل نائب رئيس الحرس الوطني، والشيخ عبدالله، والشيخة شيخة.