في الحلقتين الأولى والثانية تمّ عرض سيرة الشاعر السوري والمفكّر وأبي الحداثة العربية، أدونيس، وأبرز المحطّات فيها من الولادة حتى كتابه الفريد والمميّز “الثابت والمتحوّل: بحث في الإبداع والاتّباع عند العرب”، مروراً بمجلّة “شعر”، وما أحدثته في دنيا الشعر والعرب.
في الحلقة الثالثة والأخيرة، محاولة للوقوف على موقف أدونيس ممّا يجري في غزة وموقفه من ثورة السوريين في بلده، وعلى النظام “الثابت” والحاكم فيها منذ أكثر من نصف قرن، في محاولة لمعرفة الثابت والمتحوّل في ما جرى ويجري بعد ما كتبه في الرابع من الشهر الجاري في جريدة “الأخبار”.
كتب أدونيس المنحاز إلى “المتحوّل” ضدّ “الثابت” في الصحيفة مقالاً أعلن فيه أنّ صورة الإسلام اليوم “تشويه لما كانته في القرون الأموية والعباسية والأندلسية: تُخجِلُ حيناً، وتُحَيِّرُ حيناً، وتُقلِقُ أحياناً كثيرةً، وها هي اليوم تنفصِلُ كلّيّاً عن السّياق الإسلاميّ الأساس في التّحَوُّلَين الكبيرَين اللّذَين أسَّس لهما، بعد وفاة النّبيّ، وقادَهما عمر بنُ الخَطّاب، على صعيد السّلطة والسّياسة، وعليّ بن أبي طالب، على صعيد العدالة والرّؤيا “الرّوحيّة” ــ الثّقافيّة ــ الإنسانيّة”.
تُحسب لأدونيس جرأته، وعدم تراجعه، وترديده الدائم والمكرّر لما قاله قبل نصف قرن وهو يقارع المؤسّسة الدينية وينقد الموروث الديني، ويسعى إلى إخراج الثقافة العربية الإسلامية من حالة الجمود التي تسيطر عليها منذ أربعة عشر قرناً
أسئلة لم يطرحها أدونيس
الإسلام الذي نشهده اليوم لا يمتّ إلى السياق الإسلامي الأساس بصلة، على ما يذهب أدونيس في مقاله، ومن دون أن يفصح عن رأيه في حركة “حماس” في ظلّ الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة خصوصاً، وفلسطين عموماً. يُغفل السؤال عمّا إذا كانت هي حركة ثورية مقاومة تهدف إلى تحرير الأرض والإنسان، أو هي حركة جهادية عنفية على غرار الحركات الجهادية التي لطالما صرّح هو بموقفه تجاهها عازياً إيّاها، عقيدةً وسلوكاً، إلى مراحل إسلامية مبكرة. لم يترك فرصةً إلا وأعلن في محطات وحوارات ومقالات مختلفة أنّ الخلفاء المسلمين الأُوَل الأربعة، أي الخلفاء الراشدين، قضوا قتلاً واغتيالاً بالسيف حيناً وبالسمّ حيناً آخر.
أدونيس حاول جاهداً ومديداً ربط عنف الإسلاميين اليوم بجذر ما في التاريخ الإسلامي المديد والحافل. ما قاله أدونيس في خضمّ حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين، كان يمكن أن يقوله قبلها، أو بعدها، أو خلال أيّ حدث آخر أو مناسبة أخرى. أساساً هو لا ينفكّ يكرّره منذ نصف قرن ونيّف، وكان ولا يزال يثير بكلامه هذا اللغط والجدل، ويطرح الإشكالية تلو الأخرى.
تُحسب لأدونيس جرأته، وعدم تراجعه، وترديده الدائم والمكرّر لما قاله قبل نصف قرن وهو يقارع المؤسّسة الدينية وينقد الموروث الديني، ويسعى إلى إخراج الثقافة العربية الإسلامية من حالة الجمود التي تسيطر عليها منذ أربعة عشر قرناً. لكن يؤخذ عليه موقفه من ثورة السوريين على نظام حاكم و”ثابت” منذ 53 سنةً.
مع الثورات كلّها وضدّ ثورة السوريّين
قبل هذا الموقف الملتبس، أو الغامض، الذي يُؤوّله كلّ قارئ وفق ما يشتهي، فيستشفّ منه الأول تأييده ودعمه، والأخير معارضته وتنديده، وبينهما يراه ثالث مؤيّداً حيناً ورافضاً مندّداً حيناً آخر، وقف أدونيس موقفاً لم يترك له صاحباً ولا “جائزةً”، وحيّر قرّاءه ومتابعيه، بل ضيّعهم. حديثه العامّ عن صورة جديدة للمسلمين وللإسلام دفعهُ إلى أن أعلن بأنّه “على مسؤوليّته”. والنصّ لم يتضمّن تجديفاً أو تصوّراً مختلفاً عمّا قدّمه سابقاً في مطارحات مختلفة.
موقف أدونيس الأخير الملتبس من حركة حماس، ليس الوحيد ولا يندرج في باب الفرادة. قبله بعقد ونيّف من الزمن وقف موقفاً مشابهاً وإن أقلّ التباساً، يوم خرج السوريون ثائرين ضدّ نظام الرئيس بشار الأسد. يومها عارض ثورةً تنطلق من المساجد، وتتوسّل العنف. رفض حتى توصيف خروج السوريين بأنّه ثورة.
مسار السلام في المنطقة الذي انطلق مطلع التسعينيات من القرن الماضي، لو وصل إلى خواتيمه المرتجاة، ووقّع الأسد الأب اتفاقية سلام مع إسرائيل، لكان أدونيس قد فاز بنوبل للآداب منذ عقدين ونيّف من الزمن
أيضاً وأيضاً رفض وصفها بالثورة حتى في أشهرها الأولى، يوم كانت سلميةً، وسلميةً فقط. لم يرَ فيها أيّ علمنة. قال عنها إنّها بلا مشروع، لكنّه لم يتحدّث عن مشروع ما يقابلها أو من يقابلها. فلا هو تحدّث عن مشروع النظام السوري ولا عن مشروع الرئيس السوري بشار الأسد. حقّاً ما هو مشروع النظام السوري؟ أين يضعه أدونيس؟ أفي صفّ الثبات والجمود مع الإمام الشافعي والجاحظ، أم على ضفّة المتحوّل والمتحرّك، مع أبي نوّاس وأبي تمّام وغيرهما؟
وقف أدونيس في صفّ الثورات كلّها في التاريخ العربي. عدّها من “المتحوّل” في كتابه الأشهر “الثابت والمتحوّل: بحث في الإبداع والاتّباع عند العرب”. المتحوّل في كتابه بدا على علاقة وثيقة بالخروج على النظام القائم، لذا صنّف حركة الخوارج والفرق الشيعية الكبرى وثورة الزنج وفرقة المعتزلة وحركة الصوفية، من ضمن المتحوّل، بينما خروج السوريين على نظام الأسد ليس كذلك!!
وقف أدونيس مع الثورات كلّها ماضياً وحاضراً، وضدّ ثورة السوريين على نظام الحكم. يومها اتّهمه كثر بالطائفية، وآخرون بالرجعية، وأخيرون بأنّه مفكّر سابق وشاعر سابق وثوري سابق.
بدا أدونيس في موقفه من الثورة السورية أقرب ما يكون إلى الثابت والثبات. فعنده كان الرئيس الأسد هو “المتحوّل” الذي ينبغي الانحياز له. هكذا دنا كثيراً في دفاعه عن النظام من العقل الديني والسياسي الإسلامي الذي وصل في أوج الانحطاط والانغلاق إلى أنّه لا يجوز خلع الحاكم حتى لو لم يعدل، إذا كانت في منازعته إثارة للفتن. فأيّ حاكم مهما كان مصدر سلطته خير من الفوضى. الفقهاء المسلمون بغالبيّتهم الغالبة عارضوا الخروج على الحاكم غير العادل، بالسيف. هنا، التبست المعاني كلّها ولم يعد قارئ أدونيس يعرف الثابت ولا المتحوّل.
أدونيس ونوبل… حلم إبليس بالجنّة؟
كلّ سنة، قبيل منح جائزة نوبل للآداب، ينتظر كثر أن يستمعوا إلى اسم أدونيس كفائز طبيعي بصفته مرشّحاً دائماً لنيل الجائزة، لكن تخيب الآمال، وتبقى معلّقة على العام التالي وشاخصةً إلى فوزه بها، وإن طال الترف. موقف أدونيس من المؤسّسة الدينية والتراث العربي الإسلامي، وآرائه في المرأة وحقوقها والحرّيات والقضايا الشائكة، قد يسعفانه في حصوله على جائزة نوبل للآداب، لكن هل يساعده موقفه من الثورة السورية ونظام الأسد في نيلها؟
إقرأ أيضاً: أدونيس… طه حسين أيّامنا (3/2)
قيل الكثير عن منح جائزة نوبل للآداب للروائي والأديب والمبدع المصري نجيب محفوظ، وعلاقة ذلك بالظرف السياسي العام وموقف مصر من السلام مع إسرائيل والتطبيع معها. من حمل عليه أهمل الجانب الأدبي، والجانب الإبداعي في أعمال نجيب محفوظ، فكان ما يحيط بالنصّ هو الرافعة لوصوله إلى الجائزة، لا متن النص نفسه وعالمه الداخلي بما فيه من خيال وإبداع وبساطة، بل عبقرية. فهل يتكرّر الأمر اليوم نفسه مع أدونيس؟
إذا كان الحال هكذا، فالأرجح أنّ مسار السلام في المنطقة الذي انطلق مطلع التسعينيات من القرن الماضي، لو وصل إلى خواتيمه المرتجاة، ووقّع الأسد الأب اتفاقية سلام مع إسرائيل، لكان أدونيس قد فاز بنوبل للآداب منذ عقدين ونيّف من الزمن. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي سفن أدونيس، وما أكثرها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@