عشر سنوات خصبة أمضاها عزّ الدين القسّام بين عامَي 1896 و1906 في جامع الأزهر بالقاهرة، ومصر آنذاك تحت الاحتلال البريطاني، حتى نال الإجازة العالِميّة (بكسر اللام من العلم)، واكتسب معها إلى جانب العلوم الدينية معارف غنيّة عن واقع الأمّة في زمن الاستعمار، بين موالين له وثائرين عليه، وتلاطم الأفكار بين ليبراليين متغرّبين ومحافظين تقليديين، من جهة، وكذلك التباينات بين المحافظين والإصلاحيين من التيار الإسلامي نفسه، من جهة أخرى.
ما إن عاد إلى بلدته جبلة حتى اصطدم مباشرة مع الإقطاعيين الذين يملكون معظم الأراضي ويلقَّبون بـ”الأفندية”. وحين أراد والده عبد القادر اصطحابه إلى قصر الأفندي، وكانت أسرة القسّام تعمل في أرضه، رفض عزّ الدين ذلك من مبدأ أنّ المسافر العائد يُزار ولا يزور. وراح يحرّض الفلاحين على مقاومة الاستبداد، وهو ما دفع الأفندية إلى محاولة نفيه إلى إزمير التركية.
بالمقابل، قام عزّ الدين برحلة قصيرة إلى إستانبول للتعرّف على أساليب التدريس في المساجد هناك، فهاله انتشار الجهل بالدين في القرى والمدن التي مرّ بها. عاد إلى جبلة، واهتمّ بالتعليم، محاولاً إقناع الأهالي بتعليم أبنائهم، متنقّلاً بين البيوت لهذه الغاية. وبعدما كان مدرّساً في بانياس واللاذقية، افتتح مدرسة في جبلة، يعلّم فيها الأطفال صباحاً والكبار مساء. كما درّس تفسير القرآن والحديث النبوي في جامع إبراهيم بن أدهم بجبلة، وتولّى الخطابة في جامع المنصوري، إلى أن صار اسمه متداولاً في قرى وبلدات ومدن الساحل وصولاً إلى قرى التركمان والحفّة وجبل صهيون.
كانت الحامية العثمانية في طرابلس الغرب صغيرة، تضمّ نحو 4 آلاف جندي فقط، ولم تكن إستانبول قادرة على إرسال الوحدات النظامية للدفاع عنها، بل اكتفت بإرسال بعض الضباط لتنظيم المقاومة وتسهيل وصول المتطوّعين
هذا النشاط التربوي الواسع النطاق مهّد له الطريق لاختيار مسلك آخر وهو الجهاد، من دون أن يتخلّى عن الأول، وهو الوعظ والإرشاد والتعليم والتربية، بل جعلهما متلازمين، يخدم أوّلهما الآخر. وكانت المحاولة الأولى، حين احتلّت الجيوش الإيطالية طرابلس الغرب وبرقة، وهي المناطق التي أطلق عليها الإيطاليون اسم “ليبيا”. ففي عام 1908 أطاحت “حركة الاتحاد والترقّي” بالسلطان عبد الحميد الثاني (توفّي عام 1918). وفي عام 1911، أرسلت إيطاليا إنذاراً إلى الاتحاديين في إستانبول تدعوهم إلى تسليم طرابلس الغرب دون مقاومة، ومن دون سبب حقيقي سوى الانضمام إلى نادي الدول الأوروبية الاستعمارية آنذاك، بعد هزيمتها المذلّة في أثيوبيا في ما عُرف بالحرب الإثيوبية الإيطالية الأولى (1894-1896). وكانت إثيوبيا هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي تهزم دولة استعمارية أوروبية في ذلك الحين، وإن كان ذلك بمدد تسليحي وتدريبي من دول أوروبية استعمارية أخرى، كبريطانيا وفرنسا وروسيا.
المحاولة الليبيّة
كانت الحامية العثمانية في طرابلس الغرب صغيرة، تضمّ نحو 4 آلاف جندي فقط، ولم تكن إستانبول قادرة على إرسال الوحدات النظامية للدفاع عنها، بل اكتفت بإرسال بعض الضباط لتنظيم المقاومة وتسهيل وصول المتطوّعين.
تحرّك عزّ الدين القسّام، فقاد احتجاجاً شعبياً في شوارع جبلة. ثمّ دعا إلى التطوّع لقتال الإيطاليين. اختار 250 فرداً، وجمع التبرّعات لتجهيزهم وتأمين من يعولون أثناء غيابهم. ونسّق مع السلطات التركية، منطلقاً إلى الإسكندرونة على أن ينتقلوا بحراً إلى طرابلس الغرب. وبعد انتظار أربعين يوماً، منعهم الأتراك من الإبحار. وتبيّن فيما بعد أنّ الاتحاديين جرّبوا حرب العصابات ضدّ الجيش الإيطالي، وكان من بينهم الضابط مصطفى كمال (أتاتورك) بالتعاون مع المتطوّعين من أرجاء السلطنة، إضافة إلى المقاومين الليبيين، إلى أن توصّلوا إلى صفقة مع إيطاليا عام 1912. ووفق معاهدة أوشي أو معاهدة لوزان الأولى، تخلّت السلطنة العثمانية عن ليبيا مقابل الحصول على بعض الامتيازات فيها، منها تعيين القضاة، وإرجاع بعض جزر بحر إيجه إلى العثمانيين، الذين سيتوقّفون بعد ذلك عن إرسال الأسلحة والذخائر إلى الجنود والضباط العثمانيين في طرابلس الغرب وبرقة، بل سيسحبونهم مع كلّ الموظّفين الإداريين.
هكذا عاد القسّام إلى جبلة مع المتطوّعين الـ250، وحُوّلت أموال الجهاد لبناء مدرسة لتعليم الأمّيين. كانت التجربة الليبية نذيراً لما سيحدث في قابل السنوات، ودرساً بليغاً في ضرورة الاعتماد على النفس في وقت تنحدر فيه السلطنة العثمانية وتتآكل قوّتها من الداخل.
التجربة السوريّة الفاشلة
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وارتكاب الاتحاديين في إستانبول خطأ فادحاً بدخول الحرب إلى جانب ألمانيا وحلفائها عام 1914، استطاعت بريطانيا عام 1916 إقناع الشريف حسين (توفّي عام 1931) بالثورة على الأتراك. وهو كان حاكم الحجاز. وكان لابنه فيصل (توفّي عام 1933) دور أساسي إلى جانب بريطانيا في إخراج الجيش العثماني من بلاد الشام.
في عام 1918، وقبل سقوط الساحل بيد الفرنسيين، ترك عزّ الدين القسّام جبلة، فباع بيته، وهو كلّ ما يملك، واشترى بثمنه 24 بندقية، ورحل بأسرته إلى قرية الحفّة وهي موقع حصين، ومكث هناك يحرّض على القتال.
غدر البريطانيون بالشريف حسين، وقسّموا تركة الدولة العثمانية بينهم وبين الفرنسيين، فكانت سوريا ولبنان من نصيب فرنسا. رفض السوريون الانتداب الفرنسي، واندلعت الثورة في مختلف الأنحاء، بين عامَي 1919 و1920، وكان الشيخ عزّ الدين القسّام في طليعة المجاهدين، متعاوناً مع أبرز قادة الثورة. وقد تركّز نشاطه العسكري في جبل صهيون. ظلّ يقاوم سنة كاملة، تمرّس فيها على حرب العصابات، وتعلّم فيها من الدروس الكثيرة.
حاول الفرنسيون إقناعه بترك الثورة وأغروه بالمناصب، لكنّه رفض. فحكم عليه الديوان العرفي الفرنسي بالإعدام. ومع انهزام الثوّار في المناطق الأخرى، لجأ إلى دمشق وكانت ما تزال تحت الحكم الفيصلي، ثمّ انتقل إلى حيفا.
أهمّ الدروس المستقاة من هذه التجربة، فهي الحاجة إلى الإعداد المسبق، وإلى التخطيط السياسي والعسكري، وكذلك الانتباه إلى خطورة الاختراقات التي تخلخل الصفوف. وكان صبحي بركات (توفّي عام 1939) يقود الثورة في أنطاكية، ويتلقّى الدعم من أتاتورك عبر الحدود. فلمّا عقد أتاتورك معاهدة سيفر مع الحلفاء، تخلّى عن بركات الذي عقد صفقة مع الفرنسيين، وأصبح أول رئيس لسوريا تحت الانتداب عام 1932.
حاول الفرنسيون إقناعه بترك الثورة وأغروه بالمناصب، لكنّه رفض. فحكم عليه الديوان العرفي الفرنسي بالإعدام. ومع انهزام الثوّار في المناطق الأخرى، لجأ إلى دمشق وكانت ما تزال تحت الحكم الفيصلي، ثمّ انتقل إلى حيفا
تشكيل العُصبة القسّاميّة
عندما لجأ القسّام إلى حيفا عام 1920، جلب معه دروس التجربة الثورية في سوريا، فبنى عليها قواعد العمل في المرحلة الجديدة، لمقارعة الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني في الوقت نفسه. وأوّل تلك الدروس، أنّ مرحلة العمل العسكري تسبقها بالضرورة، مرحلة الإعداد النفسي، ثمّ تأتي مراحل أخرى، ذات علاقة بالتجهيز والتدريب والتمويل، وفي المرحلة الأخيرة يبدأ الجهاد ضدّ الاحتلال المزدوج البريطاني – الصهيوني.
1– في مرحلة الإعداد النفسي: أفاد القسّام بشكل أساسي من موقعه كخطيب في جامع الاستقلال بمدينة حيفا، لتحريض الناس على الثورة وتوعيتهم على خطر الاحتلال البريطاني وعدم الركون إليه أو الاتّكال عليه لصدّ اعتداءات المستوطنين الصهاينة، وكذلك على خطر بيع الأراضي الفلسطينية بالأثمان المُغرية. واللافت أنّ القسّام في خطبه لم يقتصر على تناول قضية فلسطين، بل كان يحذّر من أطماع الاستعمار في كلّ المنطقة، من الاستعمار الفرنسي في سوريا ولبنان، ومن الاستعمار البريطاني في فلسطين وشرقيّ الأردن والعراق ومصر والسودان. وكان يستذكر التجربة الثورية في سوريا، ويستشهد بسِيَر أبطالها كنماذج للاقتداء بها.
2- في مرحلة التنظيم السرّيّ: اعتمد القسّام على السرّية في تجنيد الثوار الفلسطينيين. فكان الوعظ والتدريس، وعمله كمأذون شرعي لعقد الزواج، ستاراً له للتواصل مع الناس في القرى والمدن، وتخيّر الأصلح ممّن يتوسّم فيهم الجدارة للعمل التنظيمي والعسكري. خرج إلى القرى ما بين منطقتَي الجليل والضفة الغربية لنهر الأردن، لمقاومة بيع الأراضي للصهاينة. حتى إنّه كان يتطلّع في وجوه المصلّين يوم الجمعة، فيختار منهم من يدعوه إلى منزله لإقناعه بالانضمام إلى ما بات يُعرف لاحقاً بـ”العصبة القسّامية”. وفوق ذلك، كان يُخضع الأعضاء الجدد إلى اختبار يمتدّ لسنوات.
3- شكل التنظيم: معظم من انضمّ إلى العصبة، كانوا من الفقراء، الفلّاحين وعمّال حيفا. وحرص القسّام على ضمّ أصحاب السوابق إلى صفوف التنظيم، لأنّه كان يعتقد بأنّ المنحرف أخلاقياً، أو السارق، أو القاتل، يمكن أن يتحوّل إلى شجاع وثائر حقيقي، إذا التزم بأحكام الدين وقيمه الأخلاقية. وبحسب مؤرّخي التجربة القسّامية المستندة خاصة إلى شهادات المشاركين فيها، فقد كان يُشترط على كلّ عضو أمران: أن يشتري سلاحه من ماله الخاص، وأن يدفع اشتراكاً شهرياً قدره عشرة قروش، ثمّ يتبرّع ممّا يقدر عليه. أمّا العدد الإجمالي للعصبة، فقد اختلف المؤرّخون فيه، بسبب السرّية التنظيمية، ويراوح ما بين مئتين وأكثر بقليل من ألف.
بحسب ما جاء في كتاب حسني جرار “الشيخ عزّ الدين القسّام قائد حركة وشهيد قضية 1882-1935″، تكوّنت العصبة من وحدات متخصّصة، وهي:
– وحدة لشراء الأسلحة.
– وحدة الاستخبارات وجمع المعلومات عن تحرّكات العدوّ.
– وحدة التدريب العسكري.
– وحدة الدعاية في المساجد، والمجتمعات.
– وحدة العمل الجماهيري والاتصالات السياسية.
– وحدة جمع المال من الأعضاء والأنصار ورعاية أُسر المعتقلين والشهداء، وكانت للمرأة في الوحدة مكانة خاصة.
إقرأ أيضاً: عزّ الدين القسّام الداعية.. الإصلاحيّ.. الثائر (1/2)
المعركة النهائيّة
انتقلت عصبة القسّام إلى العمل العسكري غير المعلن، لا سيما في ثورة البُراق عام 1929، لكنّ التنظيم انكشف أمام الأجهزة الأمنيّة البريطانية، فأوقف التنظيم نشاطه مؤقّتاً إلى عام 1935. وفي ذلك العام، خرج القسّام مع عدد من رجاله إلى قرى في منطقة جنين ومرج ابن عامر، بهدف جمع الرجال وتسليحهم. والهدف الأصلي هو السيطرة على مدينة حيفا. لكنّ البريطانيين اكتشفوهم بالمصادفة، فحاصروا القسّام ومن معه في خربة بني زيد في أحراج يعبد. طلب الإنكليز منه ومن أتباعه الاستسلام، فصاح بهم القسّام: “لا نستسلم. هذا جهاد في سبيل الله”. وهو مصداق شعار العصبة القسّامية: “جهاد. نصر أو استشهاد”. وكان لاستشهاده وقع هائل في فلسطين. ويعتبر المؤرّخون أنّ شهادته أشعلت الثورة العارمة عام 1936 التي استمرّت ثلاث سنوات، قبل أن تتدخّل الحكومات العربية وتطلب من الفلسطينيين التزام الهدوء، مقالبل تحقيق المطالب، ولم يتحقّق شيء.
انتهت حياة القسّام قبل أن تبدأ ثورته. لكنّ استشهاده كان بمنزلة الشعلة التي لم تنطفئ منذ ذلك الحين. لقد قارن غسان كنفاني في دراسته المطوّلة عن ثورة 1936، بين القسّام وتشي غيفارا Che Guevara المناضل الكوبي الأرجنتيني الماركسي الذي أُعدم في بوليفيا عام 1967. فالقسّام لم يعرف حدوداً لثورته، كما كان غيفارا الذي طمح إلى نشر الثورة الشيوعية في أرجاء أميركا اللاتينية. وكما ألهم استشهاده من جاء بعده من المجاهدين، كذلك الحال لدى إعدام غيفارا في أوساط المناضلين الماركسيين.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@