رواية “الشيخ والبحر” ألّفها العبقري إرنست همنغواي، ولجودتها المتفرّدة أهّلت كاتبها للفوز بجائزة نوبل للآداب في عام 1954.
بطل الرواية الصياد العجوز سنتياغو، الذي توغّل أربعاً وثمانين مرّة في البحر، من دون أن يعود وفي زورقه الشراعي سمكةٌ واحدة.
في رحلته التي استغرقت ثلاثة أيام، وهي موضوع الرواية، توغّل عميقاً في البحر، وتمكّن من اصطياد سمكة قرش، إلا أنّه لم يستطع انتشالها فوجد نفسه يحارب أسماك قرش كثيرة جذبتها رائحة الدم، وظلّ يصارع، ولم تبقَ لديه قطرة ماء ولا لقمة خبز، وأخيراً تمكّن من الوصول إلى الشاطئ الذي اعتاد الانطلاق منه، وبيديه المنهكتين طوى شراع زورقه وحمل أدواته ليستلقي على الرمال الناعمة تلمّساً لاستراحة تسبق الرحلة التالية.
سأله الطفل الذي كان يرافقه في بعض رحلاته: متى ترجع إلى البحر؟ وهل ستأخذني معك؟
أجاب: سأعود بعد أن تشفى يداي وسآخذك معي لأنّني أحتاج إليك.
ليس آدميّاً من لا يذرف دماً بدل الدمع على هذا الذي ابتُلينا به. لقد بكى رسولنا الأعظم ابنه قبل أن يودعه الثرى، ولو بكينا إلى أن تجفّ الدموع فذلك لا يعني أنّنا متنا أو أنّ الحلم الذي بداخلنا انطفأ
رواية “الشيخ والبحر” هي من أفضل ما أُنتج من أدب في القرن العشرين، والفيلم الذي بطله العبقري أنتوني كوين هو الأفضل في زمنه.
رواية قصيرة، إلا أنّها مكتظّة بالمعاني التي تجسّد القوّة الإنسانية في وجه أعتى الأخطار.
غزّة… والبحر
لا بحر في الضفّة، ولو أنّنا نسمّي البحيرة الصغيرة الواقعة في أدنى بقعة من الأرض “البحر الميت”. شاءت الحروب أن يُحرم أهل الضفة من بحيرتهم، وأن يُحرم أهل غزة من بحرهم.
قبل أن تُبتلى بالاحتلال الذي اشتدّ بعدما تحوّل إلى حصار وسلسلة حروب، كانت غزة مدينة أحلام. بحرها الأزرق النظيف الذي لا يعرف التلوّث زوّد أهلها بأفضل أنواع السمك وثمار البحر، ولوّنت الحياة سكّانها بكلّ ألوان الطيف الفلسطيني. هذا خليليّ لجأ إليها وصارت وطنه الأوّل، وذاك مقدسيّ كوّن عائلة من زوجة غزّيّة، وبقي إلى جوار حبيبته وأخوال أبنائه وبناته.
سطع نجم الكرمي البلعاوي ليشاطر معين بسيسو قيادة التظاهرات التي أحبطت التوطين وأنهت إلى الأبد فصل غزة عن الجسد الفلسطيني.
قبل الحرب والاحتلال والحصار، كانت غزة منجماً إبداعياً أنتج أهمّ الكتّاب والشعراء والفنّانين والباحثين. لم تعرف غريباً واحداً، إذ لا غرباء في بحر غزّة البشريّ. لم يشعر الخليليّ والمقدسيّ والنابلسيّ واليافيّ أنّه لاجئ أو حتى ضيف، وحين زرت غزة أوّل مرّة قسّمت أيامي مناصفة بين بلدتَي دورا الخليل في الضفة وبين غزة، وصدقت الطرفة التي تقول إنّ أهل الخليل قطع غيار لأهل غزة، والأمر ينطبق على كلّ فلسطيني وفلسطينية.
أينما ذهبت عابراً أو مستقرّاً ظهر في حياتي غزّيّ وغزّيّة، فالتقيتهم في جامعة دمشق، فكانوا زملاء الدراسة في المدينة الجامعية، وزملاء الحياة في أحياء العاصمة ومخيّم اليرموك. غزة دائماً معك وأبناؤها وبناتها يزرعونها في وعيك كحلم لا تكفّ عن الحنين إليه.
في الإذاعة “صوت العاصفة” حيث عملت، كانت غزة تتبدّى لي مع كلّ أغنية ألّفها أبو هشام المزين ومحمد حسيب القاضي وأبو الصادق الحسيني، ولحّنها مهدي سردانة، الذي كان يقول: “تعلّمت الموسيقى والغناء من ليالي البحر في غزة، وسهراتها وأعراسها ومناسباتها”. مع أنّه خرّيج معهد الكونسرفاتوار الذي تخرّج منه أفضل الموسيقيين العرب.
رواية “الشيخ والبحر” هي من أفضل ما أُنتج من أدب في القرن العشرين، والفيلم الذي بطله العبقري أنتوني كوين هو الأفضل في زمنه
ياسر عرفات “الغزّاوي”
غزة التي أنتجت الرعيل الأول في زمننا ولا فرق في هذه الحالة بين من ولد فيها ومن شرب من مائها: ياسر عرفات، صلاح خلف، خليل الوزير، أبو يوسف النجار، كمال عدوان، حيدر عبد الشافي، مي صايغ، وماجد أبو شرار الذي ولد في دورا وصار غزّيّاً بالنبض. حين كنت ألتقيه أيّام بيروت كان يروي حكايات غزة كما لو أنّه لم يخرج منها. لقد مات أبوه فيها.
ومن هو الذي لم يشمّ عطر غزة، عندما يسمع الصوت الملائكي يغنّي لهارون هاشم رشيد: “سنرجع يوماً إلى حيّنا”. هذه الأغنية الأيقونة متجدّدة الحياة، يغنّيها الناس في كلّ مكان وزمان. انطلقت كلماتها من غزة، ولُحّنت في بيروت، وانتشرت بسحر فيروز لتغمر الكون.
هذه هي غزة، ولا أتجاوز حين أقول إنّ هذا بعض منها.
هي ثغرنا الوحيد إلى البحر وكلّ العوالم التي وراءه، وهي جوارنا اللصيق بأرض الكنانة مصر. وحين يعزّ الممرّ المفتوح والحرّ إلى الجزء الآخر من القلب، فترقوميا الخليليّة تبعد مشي ساعات قليلة على الأقدام، ولا بدّ من أن يأتي ذلك اليوم الذي يتعرّف فيه من يبقى على قيد الحياة من أطفال غزة على بلدتهم الواقعة وراء بيت حانون ومعبرها المسمّى “إيريز”، والتي يسمعون بها ولم يروها، واسمها القدس والضفة، وأريحا ثغرنا الوحيد إلى أقرب الأشقّاء الأردن والأردنيين.
في روايته “الشيخ والبحر”، قال همنغواي على لسان بطله سانتياغو: “البحر يأتي بكلّ شيء جميل، إلا الغزاة وأسماك القرش”.
غزة في آخر حلقة من سلسلة الحروب عليها، دُمّرت معظم مبانيها، وأُبيدت فيها أحياء ومخيّمات وقرى، وتوزّع شهداؤها بين من حظي بضريح وبين من دُفن تحت الأنقاض، وجيل من أيتام يُعدّون بالآلاف، وأمّهات أصبحن أرامل، وعددٍ لا يحصى من المعاقين الفاقدي الأعضاء.
إقرأ أيضاً: “حماس لاند” تشوّه “طوفان الأقصى”
ليس آدميّاً من لا يذرف دماً بدل الدمع على هذا الذي ابتُلينا به. لقد بكى رسولنا الأعظم ابنه قبل أن يودعه الثرى، ولو بكينا إلى أن تجفّ الدموع فذلك لا يعني أنّنا متنا أو أنّ الحلم الذي بداخلنا انطفأ.
بحر غزة في مكانه، وزورقها الشراعي لم ولن تمزّقه الرياح، وصيّادها القوي سيعود حتماً إلى بحره وإلى شاطئه، ومثلما حدث مع سمكة سانتياغو التي تحوّلت إلى هيكل عظمي، فسيحدث الشي ذاته مع أسماك القرش لتبقى غزة في مكانها من الأزل إلى الأبد، ويبقى أهلها يستمتعون ببحرها الأزرق ورمال شاطئه الناعمة، فهذه هي سُنّة الحياة والطبيعة والقدر.