في لحظتَي 8 و14 آذار من عام 2005 انقسم المجتمع السياسي اللبناني إلى تيّارين واضحَيْ المعالم والهويّة والمسار. اختصرت التعابير اللغوية الانقسام بوصفه اصطفافاً بين معسكر وُصف بـ “السيادي” وآخر ينتمي إلى ما يُطلق عليه “محور المقاومة”. واللافت في هاتين اللحظتين أنّ الانقسام كان سياسياً لا طائفياً، وأنّ المعسكرين كانا خارقين للطوائف والمذاهب والأديان.
الفارق في يوم 14 آذار أنّ “السنّيّة السياسية” التي لطالما كانت عمود التيارات العروبية والقومية في لبنان قد انضمّت إلى “مسيحية سياسية” عملت بجهد يائس من خلال “لقاء قرنة شهوان” منذ عام 2001 على الدفاع عن قيَم سيادية في الموقف من الوجود السوري وهويّة البلد وطبيعة مجتمعه. بقي “اللقاء” مسيحياً يسهل وسمُه بالعمالة والتبعية للاستعمار ومحروماً من غطاء وطني شامل لا يحقّقه إلا انضمام المسلمين.
لم يدخل لبنان “حرب غزة”، والأرجح أنّه لن ينخرط بها. لا يعود هذا القرار إلى حكمة الحزب وفطنة حكومة بيروت، بل إلى قرار يصدر في طهران بشأن “الحرص على الهدوء والاستقرار”
بالمقابل اجتمعت في يوم 8 آذار كلّ “الحالة السورية” التي نمت وترعرعت في عهد وصاية دمشق (1976-2005) وباتت تشعر باليتم والتهديد بعد قرار سوريا سحب قواتها من لبنان. قاد الحزب هذا الحراك مفعّلاً قطيعة حازمة مع “الفريق الآخر”. ولا يغيب عن البال أنّ جمهور 14 آذار خرج بمليونَيْه كردّ فعل على عنوان مسيرة 8 آذار، سواء في “شكر سوريا” ووصايتها أو في تسخيف زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وقد يكون صحيحاً أنّه لولا “8” لما شهد لبنان هذا الزحف التاريخي العابر للطوائف والجهات الأربع في “14”.
قيل حينها إنّ المسلمين في 14 آذار قد تلبننوا وباتوا شديدي القرب من أيديولوجيات قومية لبنانية لطالما كانت بيرق اليمن المسيحي وأداته الأيديولوجية خلال الحرب الأهلية (1975-1990). قالت بهيّة الحريري حينها “إلى اللقاء سوريا”، وهو ما اعتُبر صياغة مخفّفة للطلاق من تلك العروبة التي فرضها نظام الوصاية على اللبنانيين. بدا السُّنّة والشيعة المعارضون لنظام دمشق وإيران وحزبها في لبنان ذاهبين إلى خيار لبناني سيادي بعدما استهلكوا خلال العقود الغابرة مسار ذبح لسيادة البلد واستقلاله وتطوّره باسم كلّ القضايا المستوردة التي تمرّ عبر دمشق.
الاغتيال السياسي تمريناً روتينياً
خُيّل أيضاً في مراحل التصادم الدموي، حين عملت آلة القتل على ممارسة الاغتيال السياسي بصفته تمريناً روتينياً، أنّ السياديين في مركب واحد أيّاً كانت الطوائف التي ينتمون إليها. كانت لحظة 7 أيار 2008 فارقة في تصنيف البشر بين مقاوم وعميل. فاجتمع “المقاومون” في “يوم مجيد” لسحق العملاء وحكم البلد، فكان “اتفاق الدوحة” الذي نظّم هذا الإنجاز. استفاد العقائديون السياديون من النزوع نحو القوة القهرية في سلوك الحزب ليستنتجوا أنّ الاصطفاف السيادي بات نهائياً وأنّ قضايا الخارج، عربياً وأعجمياً، لن تنال من جديد من الفكرة السيادية ومساحة أنصارها.
الحقيقة أنّ المسلمين السياديين آمنوا فعلاً بلبنان وأنّه بلداً وشعباً ودولةً يستحقّ دينامية خاصة مستقلّة عن ديناميات المنطقة. والحقيقة أيضاً أنّ ذلك النزوع “اللبنانوي” نهل أيضاً قوّته من فراغ أيّ مشاريع عابرة للحدود بالمعنى الذي كان رائجاً مع الناصرية والبعثية وما خرجت به “حركة القوميين العرب” ومرحلة “الثورة الفلسطينية”. وقد تنبّه مسيحيون سياديون إلى هذا الواقع متوجّسين من تحوّل في موقف السياديين المسلمين إذا ما عادت سيمفونيات “الحلم العربي” تُعزف من جديد. لكنّ الأمر لم يسبّب قلقاً موجعاً بسبب عدم وجود أعراض تُذكر في هذا الصدد، وقد ساهم “الربيع” العربي في تبديد احتمالاتها.
يطلّ “حدث غزة” بغتة ليهزّ أعمدة ما خُيّل أنّه بات صلباً في هياكل الانقسام اللبناني. لا أحد في لبنان أراد أن يستدرج الحرب صوب لبنان إلا طبعاً أصحاب الهتاف المُبرمج “يا سيّد يللا”
لبنان وحدث غزّة
يطلّ “حدث غزة” بغتة ليهزّ أعمدة ما خُيّل أنّه بات صلباً في هياكل الانقسام اللبناني. لا أحد في لبنان أراد أن يستدرج الحرب صوب لبنان إلا طبعاً أصحاب الهتاف المُبرمج “يا سيّد يللا”. حتى “جمهور المقاومة”، وعلى الرغم من خطابه المعلن الملتصق بموقف الحزب، لا يرحّب بويلات حرب ذاق أوجاعها عام 2006. وإذا ما عملت “حكومة المقاومة” كما وصفها الرئيس نبيه بري، وكانت حينها برئاسة فؤاد السنيورة، على إدارة موقف لبناني سيادي قاد إلى القرار الأممي 1701 وإنجاز إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب، فإنّ الحكومة الحالية برئاسة نجيب ميقاتي، وهي لتصريف الأعمال، تقود موقف لبنان وفق توجّهات الحزب وإرادته.
لم يدخل لبنان “حرب غزة”، والأرجح أنّه لن ينخرط بها. لا يعود هذا القرار إلى حكمة الحزب وفطنة حكومة بيروت، بل إلى قرار يصدر في طهران بشأن “الحرص على الهدوء والاستقرار”، وفق ما حمله وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت. وعلى الرغم من مستوى الانهيار الاقتصادي المأساوي الذي يعاني منه البلد وعدم قدرته على تحمّل حرب بمستوى عام 2006 أو أكثر، فإنّ ذلك لم يكن ليمنع الحزب من خوض تلك الحرب لو أنّ حسابات إيرانية أرادت ذلك.
بغضّ النظر عمّا هو احتمال أو يقين أو افتراض في هذا الصدد، إلا أنّ “حدث غزة”، الذي بات حدثاً دولياً بامتياز، فضح ركاكة القاعدة الأيديولوجية للمعسكر السيادي وارتباكه في مقاربة تحوُّل قد يكون له ما بعده في الخرائط الإقليمية والدولية. وإذا ما خرجت أصوات متعدّدة الطوائف تناقش مسألة وجاهة عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها “كتائب القسام” في 7 تشرين الأول الماضي، فإنّ الأمر يناقَش أيضاً في العالم العربي ولدى دول معنيّة بالشأن الفلسطيني. غير أنّ النقاش في الحالة اللبنانية أظهر فجأة أنّ البلد، لا سيما معسكره السيادي، غير محصّن من رياح تأتيه من الخارج فتستفزّ قسماً وتدغدغ مشاعر قسم على نحو يوجّه صفعة إلى وحدة صفّ نظرية واستقرار ثقافة تدافع عن فكرة الدولة.
تدفّقت في البلد مواقف اختلط فيها العاطفي بالسياسي بالعفوي. استفزّت يمنى الجميّل (ابنة الرئيس الراحل بشير الجميّل) معسكرها حين جاهرت بالتضامن مع مواطنيها إذا ما تعرّض البلد للحرب. وفيما من حقّ اللبنانيين أن يطالبوا بتجنيب بلدهم “حروب الآخرين”، ومن حقّ أحزاب مسيحية أن تؤكّد ضرورة أن يكون قرار الحرب والسلم بيد حكومة البلد وليس بيد حزب في البلد، فإنّ منابر قريبة من تلك الأحزاب ذهبت بعيداً في انتقاد “الطوفان” ومهاجمة “القسام” والغمز من قناة الميليشيا (الفلسطينية) التي تعمل ضدّ منطق الدولة (الفلسطينية غير الموجودة). بالمقابل لم يظهر أنّ كلّ المعسكر السيادي حازم الموقف في رفض جرّ الحزب لبنان إلى حرب، بحيث خضع الأمر لوجهات نظر فيها تسليم أيديولوجي لمسألة خُيّل تجاوزها واستسلام لأمر واقع يقرّره الحزب.
إقرأ أيضاً: لبنان بعد حرب غزّة… من يسأل عن قرار السلم والحرب؟
اللافت أيضاً بالمقابل أنّ مواقف صدرت عن سياديين آخرين (أو من يقدّمون أنفسهم بصفتهم معارضين للحزب) يعلنون بأنّهم سيكونون جنوداً في صفوف الحزب إذا ما تعرّض البلد لحرب (يقرّرها الحزب). حتى إنّ وسائل إعلام، وبعضها معروف بخصومته للحزب، راح يستخدم بتكلّف وإفراط التعابير التي يستخدمها الحزب ومحور المقاومة في عرض أخبار الحرب والتعليق عليها من دون أيّ اعتبار لأدوات المهنيّة المعتادة.
بدا أن “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” وأنّ البلد اندفع إلى خوض الحرب في الداخل على طريقته ولأسبابه مستنداً إلى الهواجس والعواطف والغرائز. وحده الحزب احتفظ برأس بارد يدير معركته وفق الإحداثيات السياسية الصادرة من طهران. بدا أيضاً متأمّلاً ارتباك اللبنانيين وتصدّع جدار سياديّيهم ليحسّن التموضع المريح في مستقبل بلد سيتقرّر بين واشنطن وطهران. هل ننسى أنّ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن كاد يُقسم بعد ساعات على “الطوفان” أن لا أدلّة تثبت تورّط إيران بـ “الإثم العظيم”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@