تنبّه السيد مقتدى الصدر متأخّراً إلى خطأ انسحابه من الحياة السياسية عام 2022، لا سيما مع سعي “الإطار التنسيقي” إلى فرض معادلة سياسية داخل المكوّن الشيعي، وأنّ الأمور تسير باتجاه محاصرة رئيس البرلمان المُقال محمد الحلبوسي وإخراجه من المعادلة، وهو آخر مصادر التهديد والابتزاز. وهو قرأ أيضاً الخطر الكامن في انتخابات مجالس المحافظات، وما سينتج عنها من تكريس سلطة أحزاب وفصائل “الإطار التنسيقي” وهيمنتها على تمثيل المكوّن الشيعي في محافظات الوسط والجنوب. وهو لذلك يلجأ إلى أمرين: مقاطعة الانتخابات، وتحريك الشارع، لحرمان خصومه من ترسيخ نفوذهم.
براغماتيّة الحلبوسي
على العكس من البراغماتية السياسية التي تعامل بها الحلبوسي مع قرار المحكمة الاتحادية بإنهاء عضويته النيابية، يبدو أنّ زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر لم يخرج بعد من تداعيات القرارات التي اتّخذها العام الماضي، وما انتهت إليه من خروج تياره من الحياة السياسية بعد استقالة نواب كتلته من عضوية البرلمان، والعزوف عن المشاركة في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
لا شكّ أنّ الهدف من قرار إنهاء عضوية الحلبوسي البرلمانية، كان إنهاء حياته السياسية، إلا أنّه استطاع استيعاب الهجوم الذي يتعرّض له، وبات أمام تحدّي تحويل هذا الاستهداف إلى فرصة لتكريس نفوذه وزعامته، من خلال دعوة مؤيّديه ومناصريه للاستمرار في معركة الانتخابات المحلية لمجالس المحافظات.
في خطوة أكثر جرأة، وفي رسالة تحدٍّ لكلّ الأطراف التي أبدت ارتياحها لقرار المحكمة الاتحادية، ذهب الحلبوسي إلى تأمين الغطاء من أجل استمرارية الوزراء الذين يمثّلون حزب “تقدّم” الذي يرأسه، تاركاً لقرار رئيس الحكومة محمد شياع السوداني برفض هذه الاستقالات أن يشكّل مخرجاً للتراجع عن الانفعالات الأولى التي تلت القرار. وهو المسار نفسه الذي لجأ إليه في توجيه كتلته البرلمانية البالغ عددها نحو 41 نائباً، وتفرضه زعيماً متقدّماً داخل المكوّن السنّي.
حالة الاستنزاف والتململ التي أُصيب بها التيار الصدري قد تكون، وهي كذلك، وراء مجموعة من القرارات والخطوات التي دعا أو لجأ إليها الصدر في الأشهر الأخيرة
هذا السلوك السياسي وهذه البراغماتية لدى الحلبوسي جعلا من الصعب تجاوزه في عملية اختيار الشخصية البديلة له في رئاسة البرلمان. وبغضّ النظر عن الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية لمنع انزلاق العراق نحو الفوضى وعدم الاستقرار، فمن غير المستبعد أن يوظّف الحلبوسي هذه المخاوف لعقد تسوية مع القوى السياسية، بما يدفعهم إلى اعتبار الحساسيّات الخاصة به في هذا الاختيار، ورغبته في استبعاد نواب محافظة الأنبار عن رئاسة البرلمان، لقطع الطريق على نشوء زعامة جديدة قد تأكل من الزعامة التي أسّس لها، خاصة أنّه يدرك حجم الدور والنفوذ اللذين يوفّرهما هذا الموقع له، في صناعة هذه الزعامة التي استغلّها إلى أقصى حدودها.
الصدر والندم السياسيّ
في المقابل، فإنّ الدعوة التي وجّهها زعيم التيار الصدري السيد متقدى الصدر لأنصاره من أجل مقاطعة انتخابات مجالس المحافظات، تكشف بشكل واضح أنّ الزعيم الصدري لم يخرج بعد من دائرة “الندم السياسي” على قراراته السابقة وما نتج عنها من عزلة وخروج من المشاركة في السلطة، وآثار سلبية على قواعده الشعبية.
هذه الدعوة وتوقيتها طرحا الكثير من الأسئلة وفتحا الباب أمام العديد من التكهّنات حول الأهداف التي يسعى وراءها الصدر. وهل هذا القرار يشكّل استمراراً للمسار والنهج اللذين بدأهما بعد قرار الانسحاب من الحياة السياسية واستقالة نوابه ورفض المشاركة في الحكومة، أم التقط المؤشّرات الإقليمية والدولية غير الراغبة بإدخال العراق في حالة من التوتّر والصراعات الداخلية، خاصة داخل المكوّن الشيعي بكلّ تنوّعاته الحزبية والميليشياوية، وسعي واشنطن وطهران خاصة للحفاظ على التسوية الهشّة التي تسمح بتفعيل العملية السياسية وتركيب السلطة التنفيذية من أجل الحفاظ على المعادلات التي نُسجت من أجل تأمين مصالحهما المتداخلة على الساحة العراقية.
بدل أن يلتقط الصدر الإشارات السلبية، والذهاب إلى خيار التسوية والحلول الوسط مع أقطاب البيت الشيعي و”الإطار التنسيقي”، كما فعل حليفاه في تحالف “إنقاذ وطن” محمد الحلبوسي ومسعود البارزاني، فضّل الذهاب إلى خيار الانعزال والانسحاب من الحياة السياسية. وعلى الرغم من أنّ قرار الصدر ترك الخصوم في حالة ترقّب دائم للخطوة التالية التي قد يلجأ إليها، والاتجاه الذي قد يوظّف به الشارع المؤيّد له، ومدى قدرته على وضع الحكومة والقوى الداعمة لها في حالة حرج، إلا أنّ قرار الانكفاء تحوّل في بُعده الأساس إلى حالة استنزاف بشكل واضح للصدر وللتيار على حدّ سواء، خاصة في الجانب المتعلّق بالشارع الشعبي الذي يشكّل جسم التيار الصدري، ومعه العديد من قيادات التيار التي رأت حجم الخسائر الناتجة عن قرار الخروج من الحياة السياسية والتركيبة الحكومية.
حالة الاستنزاف والتململ التي أُصيب بها التيار الصدري قد تكون، وهي كذلك، وراء مجموعة من القرارات والخطوات التي دعا أو لجأ إليها الصدر في الأشهر الأخيرة، بداية من الحراك الذي قاده تحت شعار “الدفاع عن القرآن”، وانتهاء بمهاجمة أنصاره لمقرّ السفارة السويدية في بغداد، مروراً بدعوة البرلمان إلى إقرار مشروع قرار بتجريم التطبيع مع إسرائيل، وإلى دعوة الحكومة والقوى السياسية لاتخاذ قرار بطرد السفيرة الأميركية وإقفال السفارة الأميركية في العراق، واتّهام قوى “الإطار التنسيقي” بالتبعية للإدارة الأميركية والولاء للقيادة الإيرانية.
إصرار الصدر على دعوة المقاطعة، التي جاءت في مرحلة دقيقة وحسّاسة سياسياً وأمنيّاً يمرّ بها العراق وتحمل مخاطر، قد يعني أنّه لن يكون محرجاً في الذهاب إلى خيار إسقاط “حرمة الدم”
تصعيد نحو المقاطعة
سياسة الإحراج والتصعيد التي ذهب إليها الصدر لم تقف عند هذه الحدود، بل تجاوزتها للمراهنة على إمكانية إلغاء انتخابات مجالس المحافظات، وإفشال ورقة التنمية المناطقية التي تراهن عليها الحكومة والقوى السياسية، وتحديداً قوى “الإطار التنسيقي” في المرحلة المقبلة لإعادة ترميم قواعدها الشعبية، وإعادة بناء الثقة بقدرتها على تقديم تجربة مختلفة لا تقتصر على المحاصصة الممزوجة بالفساد التي طبعت الحكومات السابقة، وبعدما نجحت الحكومة أيضاً في إدارة الأزمات السياسية والأمنية، واتخاذ عدد من الخطوات التي تصبّ في سياق تفعيل العملية الاقتصادية والاستثمارية.
لم تقف دعوة الصدر لأنصاره عند حدود المقاطعة، بل توسّعت لإعلان البراءة من أيّ منتسب لتياره إذا ما شارك منفرداً في هذه الانتخابات. وذهب إلى درجة متقدّمة من التصعيد عندما ترك الحرّية لأنصاره في استهداف المرشّحين عن القوى السياسية الأخرى، وتعطيل حملاتهم الانتخابية ومنعهم من نشر إعلاناتهم ودعاياتهم الانتخابية، وهي الدعوة التي لم يكشف عنها صراحة في نصّ الرسالة (الكصكوصه) التي خاطب بها أنصاره. وبذلك، انتهى رهان القوى السياسية على إمكانية حصول ليونة في موقف الصدر من العملية السياسية، وأن يدفع أنصاره إلى المشاركة تحت مسمّيات مختلفة ومتعدّدة من دون أن يتحمّل تياره السياسي أعباء هذه المشاركة مباشرة، وبالتالي التمهيد التدريجي لعودته إلى الحياة السياسية.
إلا أنّ ما جاء في هذه الدعوة، والتعبير عن الفرح الذي سيناله الصدر إذا ما التزم مناصروه وتيّاره بقرار المقاطعة، أحرجا الحكومة وأجهزتها الأمنيّة التي تتخوّف من أيّ تصعيد في هذه المرحلة قد يقود أو يؤدّي إلى حصول توتّرات في الشارع المحتقن، وما يعنيه ذلك من إمكانية أن تجد نفسها في مواجهة مع الشارع الصدري، إذا ما أرادت تنفيذ مهمّتها الأساس في حفظ الأمن، والحفاظ على العملية الديمقراطية والانتخابية ومنع تخريبها.
إنّ شرعية الانتخابات لن تكون رهينة بنسبة المشاركة لأنّ القانون العراقي لا يأخذ النسب بعين الاعتبار في تحديد شرعية التمثيل والنتائج، ومشاركة شعبية بنسبة واحد في المئة (1%)، حسب تعبير رئيس ائتلاف دولة القانون رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، تكفي لحسم النتائج وفتح الطريق أمام أحزاب “الإطار” للإمساك بهذه المجالس، مع ما يعنيه ذلك من تحكّم بالمشاريع والخدمات في المحافظات وتوظيفها لإعادة ترميم قواعدها الشعبية تمهيداً لاستخدامها في تحسين أوضاعها في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
إقرأ أيضاً: إقصاء الحلبوسي أم السُّنّة.. إبحث عن المالكي
لذلك قراءة “الإطار التنسيقي” والمتحالفين معه، وحتى الحكومة برئاسة السوداني، لم تقف أمام دعوة الصدر عند حدود المقاطعة الظاهرة فيها، بل قرأت ما بين السطور، وما تحمله من محاولة الصدر تعطيل الانتخابات وإلغاءها، أولاً من أجل حرمان خصومه من فرصة الاستيلاء على هذه المجالس، وثانياً للنيل من صلاحية الحكومة في إدارة شؤون البلاد وإسقاط شرعيتها، ثمّ الدفع من أجل إجراء انتخابات برلمانية مبكرة قبل موعدها المقرّر في 18 كانون الأول 2023.
إصرار الصدر على دعوة المقاطعة، التي جاءت في مرحلة دقيقة وحسّاسة سياسياً وأمنيّاً يمرّ بها العراق وتحمل مخاطر، قد يعني أنّه لن يكون محرجاً في الذهاب إلى خيار إسقاط “حرمة الدم” إذا ما كان المدخل للإطاحة ليس فقط بالعملية الانتخابية، بل بالعراق والاستقرار أيضاً.