بعد ثلاثة عقود إلا سنة واحدة على إصداره ديوانه الأول، “أعتقد أنّي سكران”، أصدر الشاعر شبيب الأمين ديوانه الثاني بعنوان: “رجل للبيع يهزأ بالأبد” يليه “مصرع لقمن”.
ديوان واحد يقع في مئة صفحة تقريباً، عن “دار رياض الريس للكتب والنشر”، ويضمّ 14 قصيدةً يليها “مصرع لقمن” الذي يضمّ بدوره ثلاث قصائد.
يغيب الشاعر شبيب الأمين طويلاً، ثمّ يعود بالدهشة. ثلاثة عقود تفصل بين الديوانين، وقف الأمين في بادئ أمرها “معتقداً أنّه سكران”، وفي خواتيمها “هازئاً بالأبد”.
بعد ثلاثة عقود إلا سنة واحدة على إصداره ديوانه الأول، “أعتقد أنّي سكران”، أصدر الشاعر شبيب الأمين ديوانه الثاني بعنوان: “رجل للبيع يهزأ بالأبد” يليه “مصرع لقمن”
مصارع شبيب
يشي العنوان الثاني، “مصرع لقمن”، بمصرع ما في العنوان الأول “رجل للبيع يهزأ بالأبد”، وهما مصرعان سرعان ما يصيران مصارع في طيّات الديوان، من مصرع رضوان الأمين الذي أفرد له الشاعر قصيدةً وسمّى موته هجرةً، إلى مصرع “شمس” الفنّان التشكيلي الراحل محمد شمس الدين، انتهاءً بمصرع لقمان سليم، الناشط الثقافي والناشر والفاعل السياسي والثقافي الذي قُتل غيلةً ذات شباط في جنوب لبنان، بعدما لوّح لصديقه الشاعر بيده للمرّة الأخيرة، وبينهما أصدقاء كثر تساقطوا في الطريق وورد ذكرهم في قصائد الديوان.
مصارع عدّة يقف عليها شبيب الأمين كما لو كان يرى إلى مصرعه الشخصي منها. يوطّئ الأمين لديوانه كاتباً: “وحدي ودونما أسفٍ أو غفران/ وبإبهامي الغليظة هذه، أسحق رأس مصيري الذي عاد اليوم كطائر مبلّل إلى شجرة العائلة”. إلا أنّها عودة معبّدة بالموت، موت الأصدقاء الندامى، موت أزمنة وشوارع وشعارات لم يراهن عليها الشاعر، وموت البلاد كلّها، أي لبنان الذي “قضى نحبه في الرابع من آب الماضي/ لفظ أحشاءه في بحر”.
الموت عصب الديوان
يحضر الموت في قصائد شبيب الأمين التي يضمّها ديوانه الثاني، مرتدياً عبارات ومفردات لا حصر لها: “تساقط مطر وأصدقاء”، “مستقبلي توارى… مستقبلي جثّة خلفي”، “أردى عازفَ الناي”، “أنقل حشداً من الضحايا”، “يبست أعشاب الأرض”، “عربة تعيد جثماني إلى بلاد جاء منها”، “لفظني البحر فقمةً على شاطئ”، “شوقي حمزة مات، وقبله عبد الأمير عبدالله ومات صلاح بأكمله”، “ممدّد كشاعر مطمئنّ”، “كنت أرمّم حطام قامتي”، “كلمات كأمل نفق داخل كتاب”، “أتلمّس دماً غريباً، أنزفه”، “تصلني رسائلهم من مصادر معدومة وتختنق رسائلي في باطن الأرض”، “جفّت مخيّلتي يا الله واندثرت عترتي”، “كنت أؤلّف موتاً رحيماً/ نهاية تليق بشاعر أخرس مثلي”، “أنهدم كمئذنة”، “عشت أرنباً في مسكبة جزر”، “ميت يجذّف في قارب/ ينبئ بالخريف/ يحاول عبثاً أن ينجو”، “ميت في نهر تتقاذفه الأمواج يمنةً ويسرةً”، “أنا ما تبقّى من صديقي شمس/ قصيدة هامدة وحلم رديء”، و”الكائن الوهمي، شمس، تناثر زجاجه/ ارتطم بالسماء”.
يحضر الموت في قصائد شبيب الأمين حضوراً يطغى على ما عداه. يحضر بصيغ الأزمنة كلّها، فهو تارةً حاضر بصيغة الماضي، وتارةً أخرى غائب بصيغة المضارع. قصائد الديوان هي أشبه بالمصارع التي يضع حدّاً لنهايتها مصرع لقمان سليم. وهي مصارع سريعة، لا يحتاج القارئ إلى كلمات كثيرة ليصل إلى نهاياتها المأساوية.
يكتب شبيب الأمين من قلب المأساة، حيث “ما مضى كان تافهاً/ ما مضى ريح/ وكلّ قادم خراء”، و”في البلاد التي وصلتها عن طريق الخطأ”.
القصائد عصارة ثلاثة عقود لم تتخلّص من شبح حروب ما قبلها، ولا هي أوصلت الشاعر إلى برّ الأمان. ثلاثة عقود قادته إلى برّ الموت، إلى حيث مسرح كبير لمصارع كثر من الأصدقاء والندماء، يصعده شبيب الأمين و”الدخان الذي يعلو، يؤكّد أنّني قطار”.
لا يرثي شبيب أصدقاءه فحسب، بل يرثي نفسه. يقول في “لم أكن بطل حياتي”: “الرجال بخسائرها قال أبي/ دمي في الأزقّة/ دمي على الشرفات يا أبي”، و”هامد كحجر/ ميت كصديق يدوّن أشعاراً في قرية”.
يحضر الموت في قصائد شبيب الأمين حضوراً يطغى على ما عداه. يحضر بصيغ الأزمنة كلّها، فهو تارةً حاضر بصيغة الماضي، وتارةً أخرى غائب بصيغة المضارع
الديوان أقرب ما يكون إلى سجلّ حافل بالخسارات، خسارات شبيب. لكنّها خسارات مدوّنة شعراً وصوراً شعريةً تدهش، وتبعث على الإعجاب والتعجّب.
أليس الشعر إعجاباً وتعجّباً كما يعرّفه قدامة بن جعفر؟
لغة دينيّة
تطغى على الديوان لغة دينية، وتعابير ومفردات من صميم الواقع، واقع الشاعر الذي يقطن في قرية جنوبية وادعة هي الصوّانة التي في الليل “تفرد جناحيها كطائر خرافيّ/ وتختفي من الخريطة/ تنفصل عن الأرض/ تصير كوكباً يقوده إله نادم”.
من صميم بيئة الشاعر الأمين الذي يتحدّر من عائلة دينية معروفة، وهذه النشأة تركت آثارها على لغته، بدءاً من مطلع الديوان، من قريته الصّوّانة التي تعود “كلّ فجر إلى موقعها في مرجعيون، لتطمئنّ، لتأنس بصلوات أبنائها على محمد وآل محمد الطيّبين الطاهرين”، وصولاً إلى “مصرع لقمان”، صديق الشاعر الذي رفعه إلى مرتبة عليا فاستعار لموته مفردة “المصرع”، التي تحيل وفق بناء شبيب الشعري، ولغته شبه الدينية، إلى المصرع الحسيني.
لا يخلو المصرع من عبارات وألفاظ دينية وإملاء قرآني، كأن يكتب اسم لقمان هكذا: “لقمن”، والعبارات على طريقته: “عبث وتولّى”، إلى استحضار أنبياء ورموز دينية وأسطورية، من جلجامش إلى نوح مروراً بمتّى، انتهاءً بـ”قبل العاشر وبعده” الذي يحيل إلى ذكرى عاشوراء.
إقرأ أيضاً: فنّ “حلال” أم ماذا؟
جمل الديوان مختزلة ومكثّفة، دون تقعير أو ألعاب بيانية وتراكيب لغوية معقّدة وجاهزة. كلمات قليلة تتضمّن في ثنايا حروفها مصارع كلمات حُذفت، هي مشاهدات الشاعر الهشّة كما يقول: “أختزل مشاهداتي الهشّة بكلمات/ كلمات رحت أدرّبها على الطاعة، أقودها رهينةً إلى عبارات الكلس هذه/ كلمات كأنّها ماعز/ كأنّها دجاج/ كأنّها بيض بلدي/ كلمات، كأمل نفق داخل كتاب”.
لكن لا تبدو كلمات شبيب مدجّنةً، بل على النقيض تماماً، تبدو عصيّةً على التدجين.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@