تختصر تغريدة نشرها المدير العامّ السابق لقناة الجزيرة وضاح خنفر لبّ العقل “المقاوماتيّ” الذي يواكب حرب غزّة، الآن وقبلاً.
يسأل خنفر: “هل بقي في وجوه زعماء العرب والمسلمين شيء من الحياء؟ يتساءل البعض”.
ويضيف: “دعك من الحياء والكرامة وغيرهما، ولكن هل لديهم عقل يعي أنّ كلّ مجزرة ما هي إلا معول يهدم شرعية حكمهم وينخر عروشهم المهترئة أصلاً؟”.
لا تخفى الجهة أو الجهات التي تشير إليها مفردة “العروش المهترئة” والتي، بحسب منطق التغريد، يزيد مستوى اهترائها، كلّما زاد عدم تأييدها لخيارات “المقاومة” في فلسطين. المعنى طبعاً يشير إلى السعودية والإمارات، بالإضافة الى مصر والمغرب والبحرين، أي كلّ الدول التي لا تشارك حماس وجهة نظرها حول وسائل العمل من أجل القضية الفلسطينية.
ثمّ يقفز خنفر بشكل غريب إلى فكرة “كليشيه” أخرى بقوله: “لقد فشلت معظم أنظمتنا في كلّ مناحي الحياة الاقتصادية والإدارية والسياسية وفشا فيها الفساد وأرهقتها جرائمها ضدّ شعوبها، ولو كان لديهم شيء من العقل لاعتبروا نصرة غزّة فرصة للتصالح مع شعوبهم، ونقطة تحوّل تغفر لهم كثيراً ممّا سبق، لكنّ الله لا يهدي القوم الظالمين.”
فكرتان في قاموس الشعبويّة
يريد خنفر أن يجمع فكرتين من قاموس الشعبوية المقاوماتيّة. فمن جهة يريد أن ينتقد “الأنظمة والعروش” التي لا توافق الثوريين العرب وجهة نظرهم، ومن جهة يريد أن يلصق بهم صفات الفشل السياسي والاقتصادي والإداري.
يفوته بشكل مريع أنّ الدول العربية التي تُنتقد لافتقارها المزعوم إلى دعم القضية الفلسطينية، هي صاحبة أنصع التجارب على مستوى الحكم الرشيد وفعّالية الإدارة وتطوّر الاقتصاد، في حين أنّ الدول ذوات الصوت الأعلى عن القضية الفلسطينية أو تلك التي تتّخذ مواقف متشدّدة ضدّ إسرائيل، هي صاحبة التجارب الأكثر بؤساً على مستوى الأداء الاقتصادي والسياسي والتنموي. بل هي مدارس مؤسِّسة لظاهرة استخدام القضايا الخارجية مثل القضية الفلسطينية لحشد الدعم الشعبي واستجداء الشرعية وصرف الانتباه عن المشاكل الداخلية.
يريد خنفر أن يجمع فكرتين من قاموس الشعبوية المقاوماتيّة. فمن جهة يريد أن ينتقد “الأنظمة والعروش” ومن جهة يريد أن يلصق بهم صفات الفشل السياسي والاقتصادي والإداري
لكنّ أهمية التغريدة تكمن في هذه التناقضات تحديداً، لأنّها تكشف عن شبكة معقّدة ومبهمة من خفايا الصراع على النفوذ السياسي والأيديولوجي.
في الجوهر، تبدو أولوية التغريدة الحضّ على نصرة الفلسطينيين، وتنتقد دولاً محدّدة لما تزعم أنّه افتقارها إلى النزاهة الأخلاقية وحسن التقدير الاستراتيجي بخصوص ما يتعلّق بالوضع الفلسطيني. بيد أنّ نظرة أعمق تكشف عن استراتيجية أكثر تعقيداً تختصرها التغريدة، قوامها استغلال المعاناة الفلسطينية لممارسة الضغط على الأنظمة العربية في سياق الصراع السياسي بين الدول والحكومات والأنظمة، بصرف النظر تماماً عن فلسطين والفلسطينيين. ويتوافق هذا الاستثمار المربح في مآسي الفلسطينيين مع استراتيجية إيران الإقليمية الأوسع، التي، تتذرّع بهذه القضية، بغية دعم الجهات والتنظيمات والحركات المناوئة للحكومات المستهدَفة في العالم العربي.
عليه فإنّ التغريدة جزء من سردية تؤطّر القضية الفلسطينية بعبارات عاطفية وأخلاقية صارخة، بهدف تحشيد الرأي العامّ، وإثارة مشاعره على نحو يجعل من محنة الفلسطينيين مرادفاً للفشل السياسي للقادة العرب، لا نتاج الجنون الذي مارسته قوى الرفض والممانعة من تعطيل دائم لكلّ مسارات السلام.
تغييب التعقيدات الدقيقة
يعتمد هذا الخطاب بشكل لافت على تغييب التعقيدات الدقيقة جداً التي تزنّر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ويقصي العوامل المتنوّعة التي تؤثّر في صياغة مواقف الحكومات العربية المختلفة منه، كتوازن القوى، والمنافسات الإقليمية، والمصالح الوطنية المتنوّعة لكلّ دولة من هذه الدول.
وإن كان لا بدّ لنا من المرور على فكرة الحياء التي يتفضّل بها صاحب التغريدة، فإنّ ما ينبغي أن يثير الأسئلة الأخلاقية الحقيقية ليس القرار العاقل للحكومات الرافضة لمغامرات الحروب المجنونة، بل الاستخدام غير الأخلاقي للمعاناة الإنسانية الفلسطينية “كعملة سياسية”، وأداة استراتيجية في صراعات القوّة الإقليمية. يفضح هذا النهج أصحابه بجعلهم ذوي مصلحة مباشرة في إدامة العنف والمعاناة والموت، من دون أيّ التفاتة جادّة للرفاهية الفعلية للشعب الفلسطيني. فكلّما زاد الموت الفلسطيني توفّرت لهذه الأصوات مادّة دعائية لتصفية الحسابات السياسية مع دول محور الاعتدال.
إقرأ أيضاً: نهاية إسرائيل أم نهاية فلسطين؟
النصّ الذي نحن بإزائه، بوصفه كناية عن عقل يتجاوز صاحبه إلى ما هو أشمل، يلقي الضوء على تحدّيات معالجة القضية الفلسطينية ضمن السياق الأوسع للجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. فهو يكشف “بكلّ شفافية” كيف يتمّ دمج مأساة الفلسطينيين في معارك أيديولوجية واستراتيجية أكبر، على حساب الجهود الحقيقية لتحقيق السلام والمصالحة في كثير من الأحيان.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@