هي مجرّد هدنة. لم تنتهِ الحرب بعد. ولن تنتهي إلا بحسم جذري. أفضل احتمالاته سقوط نتانياهو وخطوة أولى حقيقية لقيام دولة فلسطين.
لكنّ الاحتمالات الأسوأ قائمة. ولبنان على أجندة كلّ السيناريوهات. بدءاً من كلام عن طبخة رئاسية على نار الهُدن الغزّيّة.
***********************
مساء الأربعاء الماضي نشر البيت الأبيض 3 بيانات لثلاثة اتصالات هاتفية بين الرئيس الأميركي جو بايدن وكلّ من أمير قطر والرئيس المصري ونتانياهو. طبعاً على خلفيّة إقرار هدنة غزّة وصفقة أوّل تبادل للأسرى.
ضروريّة جداً القراءة المدقّقة والمقارنة للبيانات الثلاثة، لاستشفاف ما ننتظره وينتظرنا.
هي مجرّد هدنة. لم تنتهِ الحرب بعد. ولن تنتهي إلا بحسم جذري. أفضل احتمالاته سقوط نتانياهو وخطوة أولى حقيقية لقيام دولة فلسطين
لغة بايدن إسرائيلية
في بيان الاتصال بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد كلامٌ استهلاليّ عن “تقدير لقطر والدور الشخصي للأمير وفريقه”. أيّ دور؟ طبعاً “في التوصّل إلى اتفاق لإطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حماس”. هي لغة أميركية إسرائيلية بالكامل. “رهائن” لا أسرى. واحتجاز “حماس” لهم. بلا أيّ ذكر للأسرى الفلسطينيين.
قبل أن “تتعرّب” لغة البيت الأبيض نسبياً، مع ختام البيان بكلام عن “تهيئة الظروف لتحقيق سلام دائم ومستدام في الشرق الأوسط، بما في ذلك إقامة دولة فلسطينية”. من دون أيّ تفاصيل.
الجدلية نفسها تحضر في بيان اتصال بايدن بالرئيس السيسي: تقديرٌ “لجهود مصر للتوصّل إلى اتفاق لإطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حماس”. لكنّ دور مصر أبعد من دور قطر المقتصر على صفقة التبادل. فأضاف بيان البيت الأبيض خارطة طريق بايدن الجديدة فلسطينياً: “لا للترحيل القسري للفلسطينيين من غزة أو الضفة الغربية. (الترحيل الطوعي مقبول؟!) لا لحصار غزة، أو إعادة رسم حدودها”. مع إضافة لافتة في “البيان المصري” بأنّه “لا يمكن أن تظلّ غزة تحت أيّ ظرف من الظروف ملاذاً لحماس، بحيث يمكنها تهديد إسرائيل والفلسطينيين على حدّ سواء وتهديد أيّ طريق نحو سلام دائم”.
قبل أن يجدّد بايدن “التزامه بإقامة الدولة الفلسطينية واعترافه بدور مصر الأساسي في تهيئة الظروف لتحقيق هذه النتيجة”.
لنصل إلى بيان اتصال بايدن بنتانياهو. هنا تتويج الكلام: “اتفق الزعيمان على أنّ العمل لم ينتهِ بعد (…) وشدّد الرئيس بايدن كذلك على أهمية الحفاظ على الهدوء على طول الحدود اللبنانية وكذلك في الضفة الغربية”.
بين 7 أكتوبر… واجتياح الكويت
هكذا يبدو التفكير الأميركي المنعكس في النصوص الثلاثة، مفصّلاً على مراحل:
– أولاها طبعاً حلّ قضية الأسرى. على طريقة “محو آثار عدوان 7 أكتوبر”.
– وثانيتها والأهمّ، عرضٌ أوّلي للمجموعة العربية، بمسار جديد يزاوج بين “مدريد 2” و”أوسلو 2″، مقابل إنهاء “حماس”. مع تطمين إسرائيل بأنّ هذا الإنهاء هو تحديداً “العمل الذي لم ينتهِ بعد”. ومع توافق أميركي إسرائيلي على إنجازه. وهو ما يقتضي “تحييد” الحزب في جنوب لبنان، وتمكين السلطة الفلسطينية، الراهنة أو المستقبلية، في الضفة.
من هنا وُلدت المماثلة بين حدث 7 أكتوبر 2023 وحدث 2 آب 1990. بين هجوم حماس على إسرائيل، واجتياح صدّام للكويت.
في الحالتين سادت قاعدة أميركية شهيرة وثابتة، مفادها أنّ كلّ السياسات، سواء أكانت خارجية أو دولية أو أكبر، تظلّ في أصلها وهدفها، سياسات داخلية محلية بلدية.
سنة 1990 كان بوش الأب يستعدّ لانتخابات تجديد ولايته. اليوم بايدن في الوضع ذاته.
سنة 1990 كان المطلوب تحالفاً عربياً عريضاً، يحتضن حرب واشنطن في قلب الخليج.
اليوم المطلوب احتضانٌ عربيّ وإقليميّ “لتنقية فلسطين من لوثة حماس الإخوانية الإيرانية التيوقراطية”.
سنة 1990 كان حافظ الأسد “الخصم الأبرز” على الحدود المحاذية لحرب واشنطن على حاكم بغداد.
اليوم السيد خامنئي هو الخصم الأوحد على حدود حرب غزة، من جباليا إلى بنت جبيل.
سنة 1990 كانت موسكو السوفيتية تنازع بين وحول كابول وتدنّي أسعار النفط، وبين ندرة حتى الخبز الآتي قمحُه من سهول أوكرانيا.
في كواليس المعلومات أنّه إذا امتدّت هدنة غزة وصمدت، ثمّة أجندة كاملة لاحقة. وأنّ لبنان من بنودها. ومنها تنصيب “وكيل” للجمهورية اللبنانية، بصفة صاحب فخامة
اليوم موسكو ضائعة بين تأهّبها لاستعادة شبه قيصر، وبين حربها في سهول أوكرانيا. حيث باتت رهينة دعم جيشها الأحمر الأسطوري، بطائرات الأطفال المسيّرة، والمطوّرة من قبل دولة مجاورة اسمها إيران، كان يحتلّها ذات يوم، ستالين، آخر القياصرة الرهيبين.
سنة 1990 نسج الأميركيون مشهدية حربهم بإتقان. ونفّذوها. في لحظة تقاطعات إقليمية ودولية استثنائية. ضربوا صدّام ولم يقضوا عليه. حيّدوا تل أبيب بالكامل. ثمّ أخذوا الجميع إلى مدريد. وأعطوا بطريقهم لبنان لحافظ الأسد.
بناء على هذه القراءة، تقول معلومات المعنيين إنّ خارطة طريق بايدن لما بعد 7 أكتوبر، تكاد تكون استنساخاً مطابقاً لخارطة بوش الأب بعد 2 آب 1990. التركيبة نفسها. حتى المهلة الزمنية المقدّرة ذاتها. بين 6 و7 أشهر.
مع فارق وحيد أنّ الإيراني اليوم يبدو أكثر حذراً وتشكيكاً. وربّما أكثر طمعاً من السوري يومها. فهو يتطلّع إلى ثمن أكبر. ويشترط بعض الثمن سلفاً. بعدما تعلّم من عقم مسار مدريد الأول. وكيف انتهى مؤتمر السلام الدولي، غريقاً في شبر ماء من بحيرة طبريا المنحسرة منذ تاريخ 4 حزيران الشهير.
في كواليس المعلومات أنّه إذا امتدّت هدنة غزة وصمدت، ثمّة أجندة كاملة لاحقة. وأنّ لبنان من بنودها. ومنها تنصيب “وكيل” للجمهورية اللبنانية، بصفة صاحب فخامة.
هي معطيات جدية، لم يكن ينقصها غير كلام المبعوث الفرنسي لودريان عن نيته العودة إلى بيروت. بعد تأكيده أن إيران هي الرابح شبه الأوحد من حرب غزة.
ولم يكن ينقصها غير وساطة قطر في صفقة الأسرى. قطر نفسها المتحركة رئاسياً.
إقرأ أيضاً: أهل الجنوب… الحلقة المفقودة
ولم يكن ينقصها غير حَوَمان هوكشتاين في المنطقة، حول لبنان وفوقه، كما تحوم الكواسر حول فريسة.
فيما عبد اللهيان في بيروت فجأةً، كأنه حضر فور إتمام الصفقة، مستعجلاً تأكيد أبوّتها وقبض الثمن.
بدأ المعنيون يتفاعلون معها باتجاهات متباينة. وهو ما يقتضي كلاماً إضافياً لاحقاً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@