هل لدى لبنان فرصة يمكنه الإفادة منها لمناسبة هدنة الأيام الأربعة من أجل البحث عن سبل فصل جبهته عن جبهة غزة؟ أم أنّ هذا الطموح، الذي يستند إلى الدعوات المحلية والدولية المستمرّة إلى تنفيذ بنود قرار مجلس الأمن الرقم 1701، سراب يستحيل تحقيقه في ظلّ توقّع عودة القتال أكثر شراسة ومأساوية ودموية، بعد انتهاء هدنة تبادل السجناء والرهائن؟
قد لا تتيح الأيام الأربعة توقّع التفكير في الكثير في ظلّ تزاحم القضايا والعناوين التي تفرض مراجعة الآفاق السياسية للحرب على غزّة. إلا أنّ “الوقفة الإنسانية” (humanitarian Pause)، كما يسمّيها الأميركيون والإسرائيليون، قابلة للتمديد يوماً إضافياً كلّما أطلقت “حماس” عشرة رهائن إضافيين إلى ما هو متّفق عليه، بحيث يمكن تمديد هذه الهدنة لتصبح عشرة أيام، ومن الطبيعي أن تسعى خلالها كلّ من إسرائيل و”حماس” إلى تأمين مقتضيات تحصين أهدافهما ووسائلهما العسكرية تمهيداً لاستئناف القتال الذي وعد وزير الدفاع يوآف غالانت بأنّه سيستمرّ شهرين على الأقلّ بعد انتهاء الهدنة.
إذا كانت الهدنة تسري على جبهة لبنان، فما مصير جبهة الجنوب عند عودة القتال للاندلاع؟
الزيارة الأخيرة للموفد الأميركي الوسيط آموس هوكستين للبنان في 6 تشرين الثاني الجاري ركّزت على إبعاد لبنان عن الحرب الدائرة في غزة، نظراً إلى تزايد القصف على جانبَي الحدود
القنوات الخلفيّة مع إيران
حتّى اللحظة تقتصر محاولة تحييد لبنان، إضافة إلى الإعلان الإيراني المتواصل عن عدم الرغبة في توسيع الحرب، على الآتي:
– أنّ قنوات التواصل الخلفية بين الولايات المتحدة من جهة وإيران والحزب من جهة ثانية تمكّنت من ضبط الجبهة على الرغم من الفلتان، الذي شهدته في شكل متقطّع إن بنوعية الصواريخ المستخدمة أو بعمق تبادل القصف، وأبقت على المواجهة دون مستوى الحرب المفتوحة.
– قوبل اتصال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بنظيره الإسرائيلي غالانت في 13 تشرين الثاني الماضي، داعياً إياه إلى وقف العمليات “الاستفزازية” على الجبهة اللبنانية لتجنّب الحرب مع الحزب، بامتناع “كتائب القسام” منذ ذلك الحين عن إطلاق الصواريخ من منطقة عمليات “اليونيفيل”، واقتصار الأمر على استخدام الحزب المنطقة. وكانت المرّة الأولى التي تتّهم بها واشنطن الدولة العبرية بـ”استفزاز” الحزب.
– الزيارة الأخيرة للموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين لإسرائيل قبل خمسة أيام للجم أيّ تصعيد على جبهة لبنان، تزامنت مع ما نقله موقع “أكسيوس” الأميركي عن مسؤولٍ إسرائيلي كبير، من أنّ إسرائيل تريد منه ضغطاً دبلوماسياً كي يسحب الحزب قوّة “الرضوان” من الحدود معها.
فصل جبهة لبنان عن غزّة… سراب؟
مع ذلك يعتبر بعض “الحالمين” بإمكان فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة بعد 48 يوماً من الترابط الميداني ولو المحدود بين ما يجري على كلّ منهما، أنّ هناك بعض الإشارات التي يمكن البناء عليها:
1- أنّ الزيارة الأخيرة لوزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان لبيروت جاءت في سياق تأكيد انسجام طهران مع الهدنة وللاتفاق مع حلفائها في بيروت على مقتضيات هذا الانسجام. فهو جدّد التأكيد أنّ بلاده ضدّ توسيع الحرب، وقال إنّها ستسعى في اتصالاتها الدولية لتحويل الهدنة إلى وقف دائم لإطلاق النار دائم.
2- حين التقى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي على هامش القمّة العربية الإسلامية في الرياض في 11 تشرين الثاني، حدّثه الثاني عن أهمية المقاومة في مواجهة الاحتلال وعن الصمود الذي تحقّقه في الحرب الدائرة على غزة. لكنّ رئيسي فوجئ بقول ميقاتي له بطريقة جازمة: “لكنّ المقاومة مهمّة أيضاً في السلم… بإمكانها أن تصنع السلم”. هنا ظهرت علامات الاستغراب على وجه الرئيس الإيراني عند سماعه هذا الكلام في ظلّ قرقعة السلاح والسعي الحثيث لقادة الدول الإسلامية إلى وقف النار الذي لا تقبل به إسرائيل. لكن بموازاة ذلك بذلت طهران جهوداً للحؤول دون توسيع الحرب والتهدئة على جبهة لبنان.
منذ عام 2006 تعذّر إقناع إسرائيل بالانسحاب من مزارع شبعا، التي تعتبرها سوريّة تابعة للجولان المحتلّ، وبالتالي للقرار 242
ارتياح هوكستين لوعد برّي… وإنهاء الصراع
3- أنّ الزيارة الأخيرة للموفد الأميركي الوسيط آموس هوكستين للبنان في 6 تشرين الثاني الجاري ركّزت على إبعاد لبنان عن الحرب الدائرة في غزة، نظراً إلى تزايد القصف على جانبَي الحدود، في سياق إلحاح الإدارة الأميركية في جهودها مع إسرائيل ومع إيران، على حصر الحرب بجبهة غزة. وأشار هوكستين إلى أنّ الطريق الأفضل لذلك هو “التطبيق الكلّي” للقرار 1701. في هذه الزيارة جدّد وعده بالعمل على ترسيم الحدود البرّية وفق ما اتفق عليه مع رئيس البرلمان نبيه بري وميقاتي خلال زيارته في 30 آب الماضي. شملت محادثات الوسيط الأميركي الذي أبدى ارتياحه إلى التجاوب اللبناني مع سعيه للحلول خلال زيارتَيه، قبل اندلاع الحرب وبعدها، الآتي:
– تعامل المتابعون لمحادثاته مع إبداء “الثنائي الشيعي” ليونة حيال عدم ممانعة إقفال ملفّ الصراع مع إسرائيل على الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية. فالرئيس برّي قال له إنّه لا مشكلة في تطبيق القرار الدولي، حين ذكّر هوكستين بالاستعداد للتوسّط لترسيم الحدود البرّية أسوة بما حصل في الحدود البحرية.
– برّي أجابه بأنّ استكمال تطبيق القرار 1701 وترسيم الحدود يتطلّبان أن تنسحب إسرائيل من شمال الغجر، وتثبيت حقوق لبنان في النقاط البرية الـ13 المتنازع عليها، وإقناع الجانب الإسرائيلي بالانسحاب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلّة “ونحن حاضرون”.
– هوكستين انشرح للعبارة الأخيرة وسأل: “هل هذا وعد فعلي؟”، فأجابه برّي: “طبعاً”.
بين الفصل السابع والنقاط السبع
منذ عام 2006 تعذّر إقناع إسرائيل بالانسحاب من مزارع شبعا، التي تعتبرها سوريّة تابعة للجولان المحتلّ، وبالتالي للقرار 242. وهي رفضت مغادرة شمال الغجر الذي ينصّ القرار على لبنانيّته. ويتعرّض القرار 1701 لمناسبة الحرب على غزة للانتهاك اليومي من جانب إسرائيل والحزب، بحكم وجود الأخير المسلّح في منطقة عمليات القوات الدولية، فضلاً عن فصائل فلسطينية، حيث يحظر وجود السلاح والمسلّحين.
في الإحاطة الأخيرة لمجلس الأمن من قبل ممثّلة الأمين العام للأمم المتحدة يوانا فرونتسكا حول تنفيذ الـ1701، ذكرت بوجوب تنفيذه كاملاً، وحذّرت من “الحسابات الخاطئة”، ودعت إلى “الوقف الفوري للأعمال العدائية، وتنفيذ التزامات مترتّبة على لبنان وإسرائيل بموجب القرار”.
في وقت طرحت بعض الدول الغربية في الصيف الماضي فكرة تعديل القرار الدولي لوضع بنوده تحت الفصل السابع الذي يجيز استخدام القوة لتنفيذها، يجري التداول بصيغة أخرى استناداً إلى نصّ القرار كما هو وفق الآتي:
– أولاً: القرار نصّ في الفقرة التمهيدية الرقم 7 على أنّه “أخذ علماً” بخطة النقاط السبع التي كانت تقدّمت بها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2006، أي قبل 18 يوماً من صدور القرار 1701. والنقطة الثالثة منها تدعو إلى “التزام مجلس الأمن بوضع منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت ولاية الأمم المتحدة بانتظار ترسيم الحدود وإقرار السيادة اللبنانية عليهما بشكل كامل”.
إقرأ أيضاً: هدنة غزّة تنصّب رئيساً للبنان؟!
– ثانياً: ورد في النقاط السبع أيضاً أنّه “خلال فترة إشراف الأمم المتحدة على هاتين المنطقتين يحقّ للّبنانيين أصحاب الأملاك هناك الوصول لممتلكاتهم”.
عند صياغة القرار عام 2006 كان القصد من تضمينه مرجعية النقاط السبع، أن تسعى واشنطن لدى تل أبيب لانسحابها من المزارع. ونصّت فقرة منه على تكليف الأمين العام للمنظمة الدولية التواصل مع إسرائيل في هذا الصدد. اقتنع في حينها السفير في بيروت جيفري فيلتمان، وكذلك مساعد وزير الخارجية للشرق الأوسط ديفيد ولش، بالأمر لأنّه يُسقط حجّة احتفاظ الحزب بالسلاح وإبقاء استنفاره العسكري. وجرت المحاولة، لكنّ الجواب الإسرائيلي كان: “لن نعطي الحزب انتصاراً مجّانياً”. وراعت الإدارة الأميركية هذا الموقف.
أما زال هذا الجواب صالحاً إذا كان همّ واشنطن منع الحرب من جبهة الجنوب؟ أم التضامن مع غزة من قبل الحزب يحول دون فصل الجبهتين؟