قدّمت حرب غزّة عرضاً مفاجئاً للموقف الغربي حيال مقاربة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. تكمن تلك المفاجأة في المستوى القياسي للّغة الخشبية العقائدية التي استُخدمت لإنتاج المواقف المهرولة المتدافعة للتعبير عن دعم إسرائيل والتضامن مع “مصابها” واجتراح أعذار وحجج لتبرير “المقتلة” في قطاع غزة على مذبح “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
على العكس من الحروب العربية الإسرائيلية السابقة، فإنّ عملية التدمير المنهجي لقطاع غزّة تجري على الهواء مباشرة ولا تحتاج إلى الأدلّة التي كانت تُسرّب لإدانة الحرب الأميركية في فيتنام قديماً أو تلك في أفغانستان والعراق حديثاً. وعلى الرغم من ارتكاب إسرائيل لأبشع جرائم الحرب، فإنّ ردّ الفعل الدولي، حتى على المستوى الشعبي، دون مستوى الكارثة وفي حدود الاستيعاب التقليدي.
على العكس من الحروب العربية الإسرائيلية السابقة، فإنّ عملية التدمير المنهجي لقطاع غزّة تجري على الهواء مباشرة ولا تحتاج إلى الأدلّة التي كانت تُسرّب لإدانة الحرب الأميركية في فيتنام قديماً أو تلك في أفغانستان والعراق حديثاً
حراك وليس انقلاب
تخرج التظاهرات المناصرة للفلسطينيين والمطالبة بوقف المقتلة في أبرز المدن والعواصم الغربية، لكنّ الظواهر لم تخرج عن السياقات المعهودة التي عرفتها البلدان الغربية في تاريخها الحديث في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط، ولم تؤدِّ كما هو مأمول إلى انقلاب دراماتيكي في مواقف الدول الأوروبية ولم تهزّ الموقف الأميركي الذي ما زال مواكباً للعملية العسكرية الإسرائيلية رافضاً تأييد قرار بوقف إطلاق النار.
ما أُعلن عن تململ عدد من السفراء والدبلوماسيين الفرنسيين من السياسة المعتمدة في باريس، لا يرقى إلى مستوى السياسة الفرنسية التقليدية المعتمدة في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي منذ عقود. وإذا ما اتّخذ الرئيس الفرنسي اليميني الراحل الجنرال شارل ديغول قراراً مفاجئاً إثر حرب عام 1967 بحظر السلاح عن إسرائيل، وذهب الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران إلى اتّخاذ قرار شجاع عام 1989 باستقبال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي درجت عواصم الغرب على وصمه بالإرهاب، فإنّ ذلك السياق كان ديدن باريس الذي لم تحِد عنه وكان وراء إطلاق تميّز عن الولايات المتحدة طال دول المجموعة الأوروبية.
صحيح أنّ تململ الجسم الدبلوماسي يمثّل تبرّماً للدولة العميقة في فرنسا، وصحيح أنّ موقف اليسار الفرنسي الراديكالي بقيادة جان إيف ميلنشون يمثّل تمرّداً برلمانياً، وصحيح أنّ التظاهرات المناصرة للفلسطينيين تمثّل غضباً شعبياً، غير أنّ كلّ ذلك من عاديّات الدولة الديمقراطية وحيوية تيّاراتها ولم تشكّل حتى الآن ما يمكن اعتباره تحوّلاً يعيد فرنسا إلى “موقعها الطبيعي” في خريطة الموقف في الشرق الأوسط.
ولئن تَقَدّمَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمجموعة من المواقف للتخفيف من مستوى الغلوّ الذي اعتمده وحكومته ومؤسّسات السياسة والإعلام في بلاده دعماً لإسرائيل، فإنّ تلك المواقف المستنكرة لقتل المدنيين في غزّة والمنتقدة للسلوك الإسرائيلي هناك ظلّت ركيكة متقلّبة لا تحظى بالمصداقية على الرغم ممّا سبّبته من غضب لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.
مع ذلك فإنّ التحوّل الفرنسي على تواضعه يبقى أفضل حالاً ممّا عبّرت عنه حكومة ريشي سوناك المحافظة في بريطانيا، خصوصاً أنّ المؤسّسات البريطانية، لا سيما تلك المعنيّة بالسياسة الخارجية لحكومة جلالة الملك، لم تبدِ ضيقاً أو تبرّماً على منوال ما ظهر داخل وزارتَي الخارجية في فرنسا والولايات المتحدة.
اليسار يطيح باليمين العنصري
على عكس اليسار الفرنسي، فإنّ حزب العمال البريطاني اليساري أمعن في المزايدة على حزب المحافظين الحاكم في دعم إسرائيل وتقديس حقّها في الدفاع عن نفسها أيّاً كانت أثمان ذلك. حتى إنّ زعيم الحزب كير ستارمر هدّد بطرد أيّ نائب عمّالي من الحزب في حال أيّد تصويتاً لمصلحة طلب وقف إطلاق النار في غزّة داخل مجلس العموم. فصوّت 56 نائباً للقرار وتخلّى عدد من وزراء الظلّ عن مهامّهم في حركة تمرّد ضدّ زعامته.
مع ذلك، ومع إقالة وزيرة الداخلية سويلا برافرمان إثر انتقادها للشرطة بسبب ما وصفته بسوء معاملتها لتظاهرات جماعات اليمين المتطرّف مقارنة بسلوك محابٍ للتظاهرات المناصرة لفلسطين، إلا أنّه، خصوصاً في تعيين ديفيد كاميرون وزيراً للخارجية أيضاً، لا يمكن إلا الإقرار بأنّ حدث غزّة قد أطاح، على نحو دراماتيكي، بنهج وعقائد قادا السياسة الخارجية للمملكة المتحدة منذ استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016.
على الرغم من هول المأساة، فإنّ أصحاب القرار ما زالوا بعيدين عن التأثّر بظواهر الاحتجاج التي تكاد أن تكون مشهدية فولكلورية على هامش ما تقرّره العواصم الذي لا يشهد إلا تحوّلاً محسوباً لا يمكن حتى الآن الرهان عليه لإنهاء ساعات العدم في غزّة
أطاحت مناسبة حرب غزّة بالمنطق اليميني العنصري الذي كان يقود وزارة الداخلية، وأعادت إلى العمل الحكومي الزعيم الأسبق لحزب المحافظين ديفيد كاميرون بعد 7 سنوات على “موته السياسي”. وبدا أنّ غزة تفرض على لندن إجراء تحوّل عقائدي في تعامل الحكومة مع شؤون الهجرة والأجانب بعد ارتكاب “معصية” نفي المهاجرين غير الشرعيين إلى رواندا، وتفرض أيضاً إجراء انقلاب في السياسة الخارجية على نحو عاجل.
فيما أوروبا تبدو متخبّطة هائمة فاقدة لتميّزها في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وانتقاله إلى صراع فلسطيني إسرائيلي، فإنّ ما ظهر من صراع داخل المفوضية الأوروبية بين الرئيسة أورسولا فون درلاين ومنسّق السياسة الخارجية جوزيب بوريل، ومن تنافر بين المواقف الإسبانية الإيرلندية الداعية إلى وقف الحرب وبين المواقف الألمانية الهنغارية البولندية العاجزة عن تجاوز أولوياتها الإسرائيلية، أكّد أنّ أوروبا بقيت تسبح في الفضاء الأميركي غير قادرة على صناعة موقف يبتعد عن مواقف واشنطن.
المال يمسك بالإعلام
على الرغم من مزاعم واشنطن بالانتقال إلى سياق أكثر عقلانية في التعامل مع حدث غزّة (بما في ذلك تمرير قرار في مجلس الأمن، الأربعاء، بشأن الهدن الإنسانية في غزة)، إلا أنّ الولايات المتحدة هي الراعي الحقيقي للحرب الإسرائيلية التي تُقترف ساعة بعد ساعة ضدّ المدنيين في القطاع.
صحيح أنّ وزير الخارجية أنتوني بلينكن جال عواصم عربية عدّة مبشّراً بحلّ الدولتين. وصحيح أنّ الرئيس جو بايدن يتواصل مع نتانياهو بزعم الضغط عليه للتخفيف من خسائر المدنيين وتسهيل مفاوضات الإفراج عن الأسرى والرهائن والمطالبة بالهدن والممرّات الإنسانية، لكنّه ووزراءه ما زالوا يرفضون مبدأ وقف إطلاق النار متبنّين الموقف الإسرائيلي الذي يعتبر أنّ وقف إطلاق النار يصبّ في مصلحة حركة حماس.
لئن يعترف بلينكن بحراك معترض داخل وزارة الخارجية والمنظمات التابعة لها، وتشهد واشنطن ومدن الولايات المتحدة الكبرى تظاهرات غير مسبوقة في الحجم مناصرة لفلسطين مدافعة عن قطاع غزة، غير أنّ ذلك لم ينسحب على المؤسّسات السياسية والإعلامية ولم يظهر أيّ تشقّق يُذكر يُحدث فارقاً داخل الكونغرس. صحيح أنّ التيار اليساري داخل الحزب الديمقراطي بزعامة بيرني ساندرز ينتقد موقف الرئيس وإدارته، وأنّ المنظمات الإسلامية وكتلها الناخبة تهدّد بسحب التأييد لبايدن في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، غير أنّ قرار واشنطن ما زال في حقيقته عائقاً أمام احتمالات إنهاء الحرب ووقف المأساة في القطاع.
الواضح من خلال رصد المواقف الغربية أنّ مؤسّسات المال في العالم الغربي تمسك بشكل كامل بالمشهد الإعلامي التقليدي الذي يطلق مجتمِعاً خطاباً خشبياً واحداً لدى كلّ دول المنظومة الغربية. وبدا أيضاً أنّ تقاطع مصالح السوق والسياسة يقف وراء وحدة الحال التي ظهرت في اتّساق مواقف النخب السياسية مع النخب الإعلامية في العالم الغربي.
إقرأ أيضاً: نتانياهو يطارد فرصته الأخيرة
لقد ظهر أنّ مزاج الشارع في كلّ العواصم الغربية يتّسق مع المزاج الذي تمّ التعبير عنه داخل وسائط الإعلام الاجتماعي في إدانة الجريمة الإسرائيلية وتقديم مرافعات الإدانة وعروض الدفاع عن الفلسطينيين. وبدا في مواقف الملياردير الأميركي مالك موقع تويتر / إكس إيلون ماسك كما في مواقف نجوم في الموسيقى والتلفزيون والسينما والرياضة ما يمثّل موجة معاندة لخشبية وبلادة وتقادم المؤسسات ومعاندتها لأيّ مرونة في التعامل مع أكثر القضايا سخونة وتعقّداً في العالم.
على الرغم من هول المأساة، فإنّ أصحاب القرار ما زالوا بعيدين عن التأثّر بظواهر الاحتجاج التي تكاد أن تكون مشهدية فولكلورية على هامش ما تقرّره العواصم الذي لا يشهد إلا تحوّلاً محسوباً لا يمكن حتى الآن الرهان عليه لإنهاء ساعات العدم في غزّة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@