مئوية تركيا: “حزام أمن وسلام” بدل “العزلة الثمينة”

مدة القراءة 8 د


بقدر ما هناك فرضية خاطئة تتحدّث عن اتفاقية لوزان الموقّعة قبل قرن وعن نهايتها المفترضة قبل أشهر، هناك فرضية تاريخية أخرى غير صحيحة تتوقّف عند مقولة أنّ حكاية العلاقة بين الأتراك والغرب بدأت مع انطلاق حرب التحرير والاستقلال في عهد مصطفى كمال أتاتورك عام 1919 وحُسمت مع إعلان الجمهورية التركية الحديثة من قبله بتاريخ 29 تشرين الأول 1923.

لا يمكن تجاهل حجم العلاقة بين الإمبراطورية العثمانية والغرب ومدى التدخّل الأوروبي في شؤون الأتراك باتجاه محاولة إنجاز عملية التغيير في بنية الإمبراطورية وهويّتها الثقافية والسياسية وبنيتها الاجتماعية. إنّها علاقة قديمة تعود إلى 4 مفاصل تاريخية أساسية توجز مدى التداخل والانفتاح السياسي والدستوري والاجتماعي وميزتها:

– مرحلة التنظيمات عام 1839.

– ثمّ الإصلاحات 1856.

– بعدها المشروطية الأولى عام 1876.

– والمشروطية الثانية عام 1908.

لا يمكن تجاهل حجم العلاقة بين الإمبراطورية العثمانية والغرب ومدى التدخّل الأوروبي في شؤون الأتراك باتجاه محاولة إنجاز عملية التغيير في بنية الإمبراطورية وهويّتها الثقافية والسياسية وبنيتها الاجتماعية

أمّا مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى بعقد وما بعدها بعقد آخر بالنسبة للأتراك، فهي كانت عبارة عن مواجهات تركية تركية حاسمة لتحديد معالم المسار السياسي والدستوري والاجتماعي الجديد أوّلاً، ثمّ عن مواجهات تركية مع الخارج لرسم حدود ومعالم الدولة التركية الجديدة جغرافياً وسياسياً واجتماعياً ثانياً.

الحقيقة الثالثة التي لا يمكن تجاهلها في الداخل التركي هي مسألة الترابط بين اتفاقية لوزان وقرار إعلان الجمهورية في البلاد. كان هدف اتفاقية لوزان في 23 آب 1923 هو الترسيخ السياسي والعسكري والقانوني لوقف النزيف وخسارة الأراضي وإنهاء حالة الحرب بين تركيا والعديد من العواصم الأوروبية. أمّا هدف إعلان الجمهورية التركية بعد شهرين تقريباً على لوزان فهو إعلان ولادة شكل الحكم الجديد ومؤسّساته والتحضير لدستور عصري يتمّ إقراره بعد عام.

6 قرون من الإمبراطورية

ترى غالبية المؤرّخين والسياسيين الأتراك أنّ عمر سنديانة الجمهورية التركية هو 100 عام فقط. لكنّ امتدادات الجذور تعود إلى ما قبل 6 قرون مع الإمبراطورية العثمانية. لم تكتمل جهود التقريب التي قادها الحزب الديمقراطي وزعيمه عدنان مندريس عام 1950 بين الماضي والحاضر، وكان المطلوب انتظار وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 لإنجاز إحياء ودمج تاريخ واحد أُريد له أن ينقسم إلى تاريخين.

عاديّ جدّاً أن يبرز كلّ تيار سياسي وحزبي وعقائدي في تركيا الجوانب التي يختارها وتناسبه وهو يتحدّث عن تاريخ الجمهورية التركية والإنجازات التي تحقّقت في عهده. تقاسم اليسار العلماني واليمين المحافظ المئوية الأولى للحكم في تركيا. حزب العدالة والتنمية لوحده له خمس هذه المدّة وهو في السلطة التي تمتد إلى عام 2028.

بذلت الدبلوماسية التركية في القرن الأول من عمر الجمهورية جهوداً كبيرة للخروج من ارتدادات وخسائر الحرب العالمية الأولى. تعلّمت الدرس، لذلك اختارت أن تبقى بعيدة عن اصطفافات ومواجهات الحرب العالمية الثانية. بعد ذلك حدّدت خياراتها الاستراتيجية في أواخر الأربعينيات باتجاه التنسيق السياسي والعسكري والاقتصادي مع الغرب لمواجهة المخاطر السوفيتية. أبرز أسس السياسة الخارجية التركية والشعارات التي رفعتها هي السلام في الوطن والسلام في العالم، والدفاع عن مصالح تركيا في الداخل والخارج، البراغماتية، المرونة، الواقعية، مراعاة التوازنات الإقليمية والدولية، والانفتاح على الحوار والتفاوض.

ترى غالبية المؤرّخين والسياسيين الأتراك أنّ عمر سنديانة الجمهورية التركية هو 100 عام فقط. لكنّ امتدادات الجذور تعود إلى ما قبل 6 قرون مع الإمبراطورية العثمانية

7,500 دبلوماسي تركي لإدارة “التوسّع”

تأثّرت تركيا وأثّرت وهي تحاول أن تحمي هذه الأسس التي تبنّتها. أخذت ما تريد أحياناً لكنّها فشلت في ذلك أحياناً أخرى. أرادت تجيير الأوراق السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تملكها إلى فرص لتعزيز تمركز وتمدّد سياستها الخارجية. كان لها ما تريد في العقدين الأخيرين تحديداً، لكنّها واجهت أزمات وخلافات أيضاً مع العديد من العواصم بسبب المواقف والسياسات التي اختارتها. فالجمود في العلاقات التركية الغربية يقابله تحسّن وتقارب واسع باتجاه روسيا والصين والجمهوريات التركية والقارّة السمراء ودول المنطقة. والرحلات الاستراتيجية الطويلة المدى مع أميركا وأوروبا يهدّدها تحوّل نحو تبنّي التعدّدية القطبية وسياسة تركية إقليمية أكثر انفتاحاً على روسيا في القوقاز والبلقان والقرم والبحر الأسود بسبب التوتّر التركي الأميركي والتباعد في ملفّات سوريا والعراق وغزّة اليوم.

يعرّف وزير الخارجية التركي هاكان فيدان معالم وأهداف السياسة الخارجية التركية الجديدة على النحو التالي: “دور فاعل وبنّاء وإيجابي ومؤثّر في صناعة السياسات والتوازنات الإقليمية والدولية”. ويضع فيدان بين أهداف السياسة الخارجية التركية الحالية لعب الدور الإقليمي الفاعل والمؤثّر. لكنّ ما لا يتحدّث عنه هم جنود الخارجية في الداخل والخارج. فمن 40 ممثلية تركية في عام 1923 إلى 250 بعثة دبلوماسية يشارك 7,500 دبلوماسي وموظّف في إدارة شؤونها، إلى جانب المئات من الهيئات الشعبية والخدماتية والإغاثية الناشطة التي باتت اليوم تدعم الحراك الدبلوماسي الرسمي في العالم.

تجهد الدبلوماسية التركية منذ عقود لحماية قاعدة الفصل بين الملفّات في علاقاتها الخارجية: “نختلف معكم في مكان ونلتقي في أمكنة أخرى”. وهي استراتيجية نجحت الخارجية التركية إلى حدّ كبير في تبنّيها واعتمادها وإقناع الكثير من العواصم بقبولها وتفهّمها، وفي الدفاع عن هذا النهج المرتبط مباشرة بالتموضع الجيوستراتيجي لتركيا. لكن من زاوية أخرى ما تزال أنقرة تعاني حتى اليوم من مشكلة وضعها الجيوسياسي الذي يلزمها بمراعاة العقود والاتفاقيات والتحالفات التي بنتها منذ 70 عاماً وباتت تواجه امتحانات صعبة نتيجة المتغيّرات السياسية والعسكرية والاقتصادية المتفاعلة في العقد الأخير.

حزام من الأمن والسلام في الإقليم

لم يعمّر انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز الأحادية الأميركية طويلاً بعد عودة الروح لروسيا وتوغّل الصين وظهور اللاعب الهندي. منحت هذه التحوّلات أنقرة فرصاً سياسية واقتصادية واسعة لتعزّز موقعها الإقليمي والدولي. بالمقابل لم تحصل أنقرة على ما تريد وفق حسابات الحقل والبيدر التركية في عام 2011 و”فرص” الربيع العربي عام 2011 والرهان على الصعود التركي الإقليمي. فتدهورت العلاقات مع العديد من العواصم العربية والإقليمية. حرب القرم ومتغيّرات جنوب القوقاز وتعقيدات المشهد في سوريا والعراق وفلسطين وخطط الممرّات التجارية العابرة للقارّات، كلّها قرّبت أكثر بين تركيا وروسيا وباعدت بين أنقرة وحلفائها في الغرب، وتركت معادلة السياسة الخارجية التركية المتعدّدة الجوانب والاتجاهات أمام امتحان حقيقي وصعب في المرحلة المقبلة.

أدّى حظر الأسلحة الرسمي والفعلي والعقوبات الاقتصادية المفروضة على تركيا، من قبل الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأوروبيين بسبب التباعد في ملفّات ثنائية وإقليمية، إلى تسريع جهود بناء سياسة التوازن العسكري التركية في الإقليم. وصل تطوير تركيا لقدرتها في مجال التصنيع الحربي إلى معدّل 80 في المئة في الأعوام الأخيرة. نقاشات التوسعة الأطلسية والحاجة إلى الدور التركي في أكثر من بقعة جغرافية، نتيجة احتدام الصراع بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية مع روسيا والصين وإيران، منعت كلا الطرفين من زيادة الضغط على تركيا وسهّلتا لها مواصلة البحث عن سياسة خارجية أكثر استقلالية وتفاعلاً.

إقرأ أيضاً: الشدّ والجذب التركيّ الإيرانيّ في غزّة؟

يقول إردوغان إنّ “خطوات الديمقراطية والتنمية التي بدأت مع الراحل عدنان مندريس لم تكتمل بسبب الانقلابات العسكرية والابتعاد عن تحقيق المناخ الديمقراطي الذي تستحقّه البلاد، ونحن الذين أنقذنا تركيا من هذه الوضعية من خلال “ثورة الأناضول” التي قمنا بها عام 2002″.

ويتحدّث إردوغان عن “العصر التركي الجديد” أكثر من حديثه عن “المئوية الثانية” في عمر الجمهورية. لكنّ الجديد في طروحات الرئيس التركي وهو يتحدّث عن معالم السياسة الخارجية التركية إشارته إلى أنّ هدف أنقرة في المرحلة المقبلة هو إنشاء “حزام من الأمن والسلام في الإقليم”، والشروع في ترجمة ذلك عملياً من خلال حراك سياسي ودبلوماسي إقليمي واسع.

تراجع أنقرة هنا موقف “العزلة الثمينة” وتتبنّى حقيقة وجود لاعبين إقليميين آخرين لا بدّ من الإصغاء إليهم والتفاعل مع ما يقولون ويريدون.

لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…