بين الحصارين: 41 عاماً من بيروت إلى غزّة

مدة القراءة 5 د


باتت غزّة أول مدينة تحاصرها إسرائيل عسكرياً منذ حصار بيروت قبل 41 عاماً. كان رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها مناحيم بيغن يعتقد أنّ مشهد خروج ياسر عرفات مع مقاتليه من بيروت ليس إلا نهاية التاريخ، وفجر الشرق الأوسط الجديد، الذي تعيش فيه إسرائيل من دون أيّ تهديد عسكري وجودي.

لكنّ الزمان دار في اتّجاه مختلف. في صيف 1982، اجتاحت إسرائيل في لبنان خلال تسعة أيام ما يعادل عشرة أضعاف مساحة قطاع غزّة بأكمله، ودخلت شرق بيروت، وبنهاية ذلك الشهر فرضت الحصار على غربها، وقطعت عنها المياه والإمدادات الغذائية، إلى أن خرجت منظمة التحرير بقياداتها ومقاتليها إلى أصقاع المنافي العربية قبل نهاية ذلك الصيف.

تبدو غزّة مهيّأة لقتال أطول، ليس فقط من شواهد بطء التقدّم الإسرائيلي على مدى شهر كامل، بل لأنّ الفلسطينيين يقاتلون اليوم على أرضهم، وليسوا كما كانوا في بيروت تحت ضغط بيئتين: حاضنة تتلقّى القصف، ومعادية تترقّب نتائجه. ومهما يكن الغطاء الدولي لإسرائيل، فإنّ إخراج الفلسطيني من عاصمة عربية مقسّمة طائفياً وسياسياً ليس كإخراجه من مدينة معترف بها دولياً كأرض فلسطينية محتلّة.

ما التالي أمام نتانياهو؟ هل يتابع الهجوم حتى النهاية لاقتحام مدينة غزّة وشمال القطاع بأكمله؟ أم يشدّد الخناق قبل بدء التفاوض؟

تبدو غزّة مهيّأة لقتال أطول، ليس فقط من شواهد بطء التقدّم الإسرائيلي على مدى شهر كامل، بل لأنّ الفلسطينيين يقاتلون اليوم على أرضهم، وليسوا كما كانوا في بيروت تحت ضغط بيئتين: حاضنة تتلقّى القصف، ومعادية تترقّب نتائجه

أسلوب الحزب والأسد… في غزّة

رسالتان إعلاميّتان بنى عليهما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو دعايته منذ الساعات الأولى للحرب على غزّة:

الأولى: موجّهة للداخل ومفادها أنّ الحرب طويلة ومؤلمة.

والأخرى: للخارج مفادها أنّ الحرب بلا ضوابط وبلا سقف زمني.

والرسالتان موجّهتان لكسر القيدين اللذين يوقفان الحروب الإسرائيلية حينما ينفد صبر الداخل أو الخارج أو كليهما. إذ يعتقد المستوى العسكري في إسرائيل أنّ السيطرة على شبكة أنفاق “حماس” في غزّة يتوقّف على مدى هذا الصبر. وليس من قبيل المصادفة هذا التشابه ما بين التكتيكات المستخدمة في حصار غزّة وأسلوب الحصار الذي طبّقه الحزب وبشار الأسد في المناطق السورية التي كانت فيها شبكات أنفاق كبيرة للمعارضين السوريين: يبدأ الأمر بتطويق المدينة وقطع الإمدادات، ثمّ تعطيل كلّ سبل الحياة المدنية، وصولاً إلى إخراج النظام الطبّي من الخدمة تماماً. ويترافق ذلك مع إبقاء ممرّ وحيد شبه آمن لدفع المدنيين إلى الخروج من الجحيم. وهكذا، بدلاً من أن تنزل إلى المسلّحين في الأنفاق، تجبرهم على الخروج منها.

يحيل هذا التشابه إلى المقارنة بين التعامل الدولي مع “حدود القوّة” التي يتقبّل المجتمع الدولي استخدامها ضدّ الفلسطينيين و”حدود القوّة” التي سُمح للأسد والميليشيات الإيرانية باستخدامها.

في سوريا، كان الخطّ الأحمر الأميركي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما هو عدم استخدام السلاح الكيمياوي، وهذا أرحب نسبيّاً ممّا يسمح به الرئيس الحالي جو بايدن لإسرائيل حتى الآن. لكنّ ذلك الخطّ الأحمر نفسه تجاوزه الأسد بلا عواقب.

حتى الآن، ما تزال أميركا وأوروبا تقف خلف إسرائيل في هدفها المعلن المتمثّل في القضاء على “حماس”، لكنّ صلابة الدعم بدأت تتآكل بفعل طول المدى الزمني للقتل، وحصيلة القتلى من الأطفال والصور المروّعة للدمار وقصف المستشفيات وسيارات الإسعاف والمدارس

انخفاض سقف نتانياهو… إلى الرهائن

حتى الآن، ما تزال أميركا وأوروبا تقف خلف إسرائيل في هدفها المعلن المتمثّل في القضاء على “حماس”، لكنّ صلابة الدعم بدأت تتآكل بفعل طول المدى الزمني للقتل، وحصيلة القتلى من الأطفال والصور المروّعة للدمار وقصف المستشفيات وسيارات الإسعاف والمدارس.

في مقابلته الأخيرة مع قناة ABC، أعطى نتانياهو رسائل بدا منها أنّه على خلاف جدّي مع الإدارة الأميركية التي تضغط عليه للموافقة على “هدنة” يرى فيها تهديداً لخطّته العسكرية ولوجوده السياسي. وأتى ردّه بنقطتين فيهما شيء من التناقض:

1- “وقف إطلاق النار” غير ممكن إلا بإطلاق الرهائن، واستمرار العملية العسكرية هو “الطريقة الوحيدة المجدية للضغط على “حماس” لإطلاق الرهائن”. وهذا جديد في خطابه.

2- حين سئل عمّا بعد “حماس”، قال إنّ إسرائيل ستتحمّل المسؤولية الكاملة عن الأمن في قطاع غزّة لوقت غير محدّد.

تحمل الرسالة الأولى بوادر تخفيض لسقف الأهداف، من إنهاء وجود “حماس” في القطاع إلى ما هو أقلّ من ذلك بكثير. فحينما يصبح “إطلاق الرهائن” هو الهدف الأكبر فهذا يفتح الباب أمام تفاوض لتبادل الأسرى.

أمّا الرسالة الأخرى فتعكس إصراراً على المضيّ في الحرب حتى النهاية، وعلى رفض تسليم القطاع إلى السلطة الفلسطينية.

إقرأ أيضاً: النعوش الإسرائيلية.. هل تعيدهم إلى السلام؟

لكنّ الأهمّ من هذا وذاك أنّه يتحدّث للمرّة الأولى عن “اليوم التالي” لما بعد “حماس”، وهي إحدى النقاط الخلافية الرئيسية بينه وبين الأميركيين. إذ إنّ إدارة جو بايدن تعارض بشكل واضح إعادة احتلال القطاع، وتنتقد نتانياهو لعدم وجود خطّة لديه لما بعد القضاء على “حماس”. وهذا يدفع للاعتقاد بأنّ نتانياهو ساق طرحه الجديد للقول للأميركيين إنّه يدرك ما يفعل، وإنّه ليس في حاجة إلى أيّ أحد لتولّي زمام الأمور في القطاع.

على الأرض، يبدي الإسرائيليون بعض الاستعجال لتحقيق النتائج، وقد يشير ذلك إلى مدى شعور القيادتين السياسية والعسكرية بضغط الوقت. وكلتاهما تدركان أنّ ساعة الحساب على إخفاق السابع من أكتوبر ستحين في اللحظة التي يتوقّف فيها إطلاق النار.

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…