بعد انتخابات 6 حزيران الماضي وما تلاها من تناغُم بين الحكومة والبرلمان في الكويت، بدا المشهد السياسي في طريقه نحو الهدوء إثر سنوات من “العواصف”، مع تحوّل المعارضة إلى غالبية، واتفاقها مع السلطة التنفيذية على “خريطة طريق”، تجعل السلطتين في حالة توافق، بناء على أسس جديدة تؤدّي إلى التعاون المفترض.
لكن سرعان ما تبيَّن أنّ الأمور ليست كذلك، وأنّ المشهد ليس وَرديّاً، وأنّ مسار التقدّم يحتاج إلى الكثير لكي يتحوّل من مُتعرِّج إلى مُستقيم، نتيجة تشابك الخلافات وتصاعد الصراعات واختلاف الحسابات وتضارب الأولويات.
ما بين 20 حزيران و2 آب، أفضى التعاون بين البرلمان والحكومة إلى إنجاز 4 قوانين مهمّة، ستترك أثراً على الحياة السياسية لسنوات طويلة. ومنذ 2 آب حتى 30 تشرين الأول (نحو 3 أشهر) توقّفت أعمال البرلمان في الإجازة الصيفية فيما واصلت الحكومة عملها، ليأتي تاريخ 31 تشرين الأول (الثلاثاء الماضي) حاملاً معه “المفاجأة”، مع النقد غير المسبوق الذي وجّهه وليّ العهد الشيخ مشعل الأحمد للحكومة التي رأى أنّ أداءها “لم يُحقّق ولم يُلامس طموحات وتطلّعات المواطنين، على الرغم من دعم القيادة السياسية لها”، وأنّ عملها اتّسم بـ”التردّد في اتّخاذ القرارات، والبطء في التنفيذ، وعدم تنفيذ برامج عملها”.
أوحت ردود بعض النواب على خطاب وليّ العهد بأنّ البرلمان الحالي، شأنه شأن الحكومة، قد لا يستمرّ طويلاً، خاصة أنّ بداية الصدامات لاحَت مع تقديم استجوابين لوزيرة الأشغال
مواقف قاسية غير مألوفة
لم يكن موقف وليّ العهد، الذي جاء في خطابه خلال مناسبة بروتوكولية هي افتتاح دور الانعقاد الثاني لمجلس الأمّة، عاديّاً أو مألوفاً.
قال أيضاً كلاماً قاسياً بحقّ السلطة التشريعية، محذّراً بعض النواب من “الاتّجار باسم المواطنين لتحقيق مكاسب شخصية وهامشية”، ونبّه من بعض تصرّفات هؤلاء التي “أدّت إلى استياء شديد من المواطنين”، ودعاهم إلى “الارتقاء بالممارسة النيابية بترك وعدم تبنّي صغائر المسائل والأمور التي لا تشكّل اهتمام المواطنين، والبعد عن توجيه الأسئلة البرلمانية التي تحتاج الإجابة عنها إلى فصل تشريعي كامل، وكذلك البعد عن تقديم مشاريع واقتراحات ومطالب بحجّة أنّ المواطنين هم من يريدونها والمواطنون منها براء، والحرص على عدم إلغاء ما يُعتبر من المصالح العليا للدولة، وعدم اتخاذ الاستجواب كسلاح ضغط وتهديد، وعدم تأجيج الشارع وإشغال المواطنين والرأي العام بمسائل وأمور جانبية وهامشية معروف سلفاً عدم مصداقيتها”.
ما كان لافتاً أكثر أنّ الشيخ مشعل لم يكتفِ بنَقْد السلطتَيْن، بل توجّه إلى المواطنين داعياً إيّاهم إلى محاسبة نوابهم “لضبط المشهد السياسي وتقويمه وتعديله وتصحيح اعوجاجه”، لأنّ من “يُصحّح المجلس هم ناخبوه”، وحضّهم على منع بعض النواب من “الاحتجاج بأنّ بعض مطالبهم إنّما هي مطالب شعبية، وهي على العكس من ذلك تماماً (…) فهي وإن كانت في ظاهرها مطالب نيابية إلا أنّ باطنها وهدفها الحقيقي تحقيق المكاسب الشخصية”.
رسائل شاملة
في قراءة لما حملته رسائل وليّ العهد، يمكن استخلاص ما يلي:
– أولاً: إنّ القيادة السياسية (ممثّلة بالأمير ووليّ العهد) غير راضية عن أداء السلطة التنفيذية، على الرغم من أنّ المادة 55 من الدستور تنصّ على أن “يتولّى الأمير سلطاته بواسطة وزرائه”، وهذا يعني أنّ للأمير (أو وليّ العهد الذي ينوب عنه) الحقّ بتعيين وإقالة الوزراء وفق إرادته المنفردة، وهو ما أشار إليه النائب حمد العليان تعقيباً على خطاب وليّ العهد، بقوله “إذا كان سموّ وليّ العهد يرى أنّ حكومته ليست على مستوى طموحاته، فسموّه مَن كلّفها وهو يملك حقّ إعفائها”.
يعكس كلام العليان حال الصدمة لدى بعض النواب وأيضاً الكثير من المراقبين بسبب النقد غير المسبوق الذي وجّهه وليّ العهد للحكومة، إذ كان معتاداً أن تُعطي القيادة السياسية توجيهات للحكومة وتحضّها على التعاون مع البرلمان، من دون انتقاد عملها بهذه الصراحة علناً، وهو ما يشي بأنّ أيام الحكومة الحالية ليست طويلة.
– ثانياً: اعتادت القيادة السياسية توجيه نصائح ورسائل للنواب، عبر كلام بروتوكولي عامّ، لكن هذه المرّة كانت العبارات غير مسبوقة، والنقد بمستوى مرتفع، مع وصوله إلى تقريع بعض النواب الذين يتاجرون بمطالب “مزعومة” للمواطنين بهدف تحقيق مكاسب شخصية وهامشية، وهو ما دفع نواباً مثل خالد المونس العتيبي وسعود العصفور إلى إعلان رفضهم “ممارسة الوصاية على الأمّة وممثّليها” و”منع النائب من ممارسة عمله”، معتبرين أنّ “أيّ محاولة لتقييد الممارسة الدستورية لأعضاء مجلس الأمّة تنطوي على إهدار للأسس الدستورية الثابتة ولحقّ وواجب النائب في تمثيل الأمّة وإنفاذ إرادتها”، ومشدّدين على أنّ النائب “يمارس أعماله بواسطة الأسئلة والاقتراحات وفق ما يراه متوافقاً مع الدستور”.
أوحت ردود بعض النواب على خطاب وليّ العهد بأنّ البرلمان الحالي، شأنه شأن الحكومة، قد لا يستمرّ طويلاً، خاصة أنّ بداية الصدامات لاحَت مع تقديم استجوابين لوزيرة الأشغال، وهو ما دفعها إلى الاستقالة الأحد الماضي، والتلويح بتقديم استجوابات جديدة إلى رئيس الوزراء ووزير الخارجية ووزير التجارة ووزراء آخرين.
رأت مصادر مطّلعة أنّ الاستياء العارم الذي ورد في الرسائل، مردّه إلى رغبة الشيخ مشعل بتسريع عجلة التنمية، ووضع المشاريع الكبرى على سكّة التنفيذ، وإيجاد حلول جذرية لبعض الملفّات العالقة منذ سنوات
– ثالثاً: الرسالة المُوجّهة للمواطنين لم تكن مفاجئة في مضمونها كالرسالتين الموجّهتين للسلطتين، لكنّ توقيتها هو ما أثار استغراب المراقبين، لأنّ الناخبين اليوم ليسوا على أبواب انتخابات جديدة لمُحاسبة ممثّليهم، إذ لم يمضِ سوى 5 أشهر على انتخابهم مجلس الأمّة الحالي، وأمامهم أكثر من 3 سنوات للانتخابات المقبلة.
في هذا الصدد، قرأت أوساط سياسية الرسالة بأنّ الناخبين أيضاً يتحمّلون مسؤولية من خلال اختياراتهم في الاقتراع، وربّما عليهم الاستعداد لقول كلمتهم قريباً ومجدّداً، في انتخابات مبكرة بدأ البعض يتحدّث عن تواريخ مفترضة لها نهاية العام الحالي أو بداية العام المقبل.
أسباب الاستياء
على هذا النحو، جاء خطاب وليّ العهد “حمّال أوجه”، فكان بعض رسائله “مُشفّراً” وبعضها علنياً واضحاً، ووصَفَه البعض بأنّه خطاب “المكاشفة والمصارحة” الذي ظهر فيه الشيخ مشعل (بحكم التفويض الممنوح له من الأمير بممارسة بعض صلاحياته الدستورية منذ تشرين الثاني 2021) “أباً للسلطات” و”والد الجميع” الذي يُقوِّم ويُسدي النصائح ويُعطي التوجيهات لتدارك ما يمكن تداركه قبل فوات الأوان.
رأت مصادر مطّلعة أنّ الاستياء العارم الذي ورد في الرسائل، مردّه إلى رغبة الشيخ مشعل بتسريع عجلة التنمية، ووضع المشاريع الكبرى على سكّة التنفيذ، وإيجاد حلول جذرية لبعض الملفّات العالقة منذ سنوات، ووقف التراشق بين بعض النواب والوزراء، والخروج من حالة تصفية الحسابات الشخصية بما يسمح لعجلة الدولة بالدوران.
إقرأ أيضاً: الكويت: رسائل “بالنار” لأميركا…
لا يبدو أنّ هذه الرغبات قابلة للتحقيق وفق “الستاتيكو” الحالي، مع وجود حكومة تمتلك قوة في البرلمان باعتمادها على ولاءات قسم كبير من النواب بما “يحصّن” بعض وزرائها من المساءلة النيابية، لكنّها لا تستطيع أن تمضي قدماً في اتخاذ قرارات كبرى وجوهرية، سواء على صعيد التنمية أو الاقتصاد أو تنويع مصادر الدخل أو إطلاق المشاريع الحيوية، لأنّ عنصر قوّتها “تشريعياً” هو في الوقت نفسه أحد أسباب ضعفها “تنفيذياً”.