قبل الإعلان عن إطلالة مقبلة له، ظهر أمين عام الحزب السيّد حسن نصر الله لثوانٍ في فيديو “تعبوي” أثار أسئلة وتكهّنات وهذا هو الهدف. غير أنّ الإعلان يوم الأحد بأنّ إطلالته ستكون يوم الجمعة أعطى انطباعاً أنّ ليس في الأمر عُجالة ولو كان غير ذلك لظهر فوراً بدون تأخير. ووفق ذلك، فإنّ مناوشات الجنوب المتصاعدة، والفيديو، والإطلالة، من عدّة شغل مواكبة لما يُحاك في غرف القرار “الدبلوماسي خصوصاً” في طهران.
قبل ذلك، احتاج الحزب إلى صورة تجمع زعيمه مع قياديين من حركتي حماس والجهاد الإسلامي. استقبل نصرالله، في 25 تشرين الأول الجاري، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد نخالة ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري. صحيح أنّه في حالة الحرب، وفيما “السيّد” يقود غرفة العمليات وفق رواية الحزب، لا يجتمع القادة علناً وفي غرف الاستقبال التقليدية، غير أنّ الأمر كان ضرورة، ويحتاج إلى إعلان وإعلام وصورة.
وقد انضمّ القيادي في حماس غازي حمد، ومن بيروت، في 26 الجاري إلى القياديين خالد مشعل في 16 الجاري، وموسى أبو مرزوق في 14 الجاري في التعبير عن خيبة ممّا يقدّمه الحزب حتى الآن. فأكّد حمد أنّ “حماس” كانت تتوقّع تدخلاً أقوى من الحزب في الحرب وسط أسئلة حول دواعي هذا التوقّع ومعطياته وسوابقه.
أسئلة عن غياب السيّد
ولئن كثرت الأسئلة بشأن غياب “السيّد” عن مشهد هو من اختصاصه، فإنّ في هذا الغياب بالذات ما يكشف التحاق الحزب بلغته الخاصة بالدعوات اللبنانية لعدم الانخراط في هذه الحرب وتجنيب لبنان دماراً عرفه اللبنانيون عام 2006، ويشاهدونه يومياً في ما يجري في غزّة. لكنّ الأهم من ذلك، أنّ في هذه الحرب عاملاً جديداً لاحظه قيادي آخر في حركة حماس.
لم يتوقّع الحزب أيضاً مثل حماس وإيران من ورائهما حجم التدخّل العسكري الأميركي اللافت لصالح إسرائيل
ففي ردّه على سؤال لصحيفة “فايننشال تايمز” قال علي بركة من بيروت، وهو واحد من قيادات حماس السياسية في الخارج في 27 من هذا الشهر إنّ الحركة “لم تتوقّع هذا القدر من الردّ من أميركا”. أوضح: “ردّ إسرائيلي؟ نعم توقّعنا ذلك. لكن ما نراه الآن، هو دخول الولايات المتحدة إلى المعركة، وهذا لم نكن نتوقّعه”.
لم يتوقّع الحزب أيضاً مثل حماس وإيران من ورائهما حجم التدخّل العسكري الأميركي اللافت لصالح إسرائيل. يذكّر هذا التطوّر أهل المنطقة بالجسر الجوي العسكري الذي أقامته الولايات المتحدة مع إسرائيل إثر اندلاع حرب تشرين الأول 1973. لكن هذه المرة بدا أنّ الولايات المتحدة، من البيت الأبيض إلى البنتاغون مروراً بالكونغرس، تعتبر أنّ هذه الحرب هي حربها.
تهيّب الحزب من تهيّب إيران
تهيّب الحزب الموقف. زاد من هذا التهيّب تهيّب إيران نفسها وإدراكها خطورة ودقّة ما حصل في 7 تشرين الأول الجاري، وتبلّغها رسائل أميركية مباشرة وأخرى غير مباشرة، يُفصح عنها مزاج النخبة الحاكمة في واشنطن. لم تكتفِ العواصم بالتواصل مع طهران، لكنها، وهذا ما تفتخر به منابر الحزب القريبة في لبنان، كثّفت تواصلها مع الحزب محذّرة مهّددة متوعّدة بالمصير الذي ينتظر لبنان والحزب معاً في حالة اقترف الحزب “خطيئة” فتح جبهة الجنوب والانخراط في حرب كبرى مع إسرائيل. وفي التهيّب أيضاً ما رصدته طهران وحزبها من لغة ودودة مفاجئة للصين حيال الولايات المتحدة حملها وزير خارجية بكين إلى واشنطن في زيارة في عزّ الاختلال في موازين القوى الذي تفرضة معركة غزّة.
لاحظ الحزب بسهولة أنّ “مناوشاته” الجنوبية، وهي دموية أودت بحياة العشرات من مقاتليه، تُواجه بردّ إسرائيلي تصعيدي مركّز يخترق بعنف كلّ قواعد الاشتباك التي درج الحزب على التدثّر بها. لا بل لاحظ أنّ إسرائيل، التي لطالما تجنّبت إنزال خسائر بشرية مباشرة في صفوف الحزب في لبنان والاكتفاء بالقصف في مناطق مفتوحة بعيدة عن السكان ومواقع الحزب العسكرية، تتقصّد هذه المرة أن يكون ردّها دموياً موجعاً. وكان سهلاً استنتاج أنّ إسرائيل تستفزّ الحزب وتستدرجه إلى “ارتكاب” الدخول في حرب على منوال ما حصل منذ 17 عاماً.
لاحظ الحزب بسهولة أنّ “مناوشاته” الجنوبية، وهي دموية أودت بحياة العشرات من مقاتليه، تُواجه بردّ إسرائيلي تصعيدي مركّز يخترق بعنف كلّ قواعد الاشتباك التي درج الحزب على التدثّر بها
لا يحتاج الأمر إلى معلومات سريّة خاصة. فالدعوة إلى حرب واحدة للتخلّص من حركة حماس والحزب علنية في إسرائيل وتنُاقش داخل أروقة السلطة وغرف القرار في “مجلس الحرب”. وإذا ما جوبهت هذه “التمنّيات” في السابق بمعارضة أميركية صلبة وحازمة في عزّ ورشة التفاوض التي كان يقودها المبعوث الأميركي لشؤون إيران روبرت مالي مع طهران، فإنّ إسرائيل تتمتع هذه الأيام بلحظة تاريخية نادرة تبيح لها ما كان في السابق من المحظورات والمحرّمات، خصوصاً حين يتوفّر في “أرض المعركة” حضور عسكري أميركي رافد وداعم ومباركة غربية شاملة لـ “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
لم يصدر عن الحزب أيّ موقف يُشتمّ منه تعقّل وتحفّظ وتمهّل في الاندفاع نحو الحرب لـ “أسباب لبنانية” بحتة. يردّد اللبنانيون قادة وأحزاب وشخصيات وأفراد مسلّمة عجز البلد الذي يعاني من كارثة اقتصادية، هي الأشدّ في العالم منذ عام 1850 وفق البنك الدولي، عن تحمّل حرب ستجرّ دماراً قد “يزيل البلد عن الخارطة”، وفق ما يتوعّد قادة إسرائيل. ومع ذلك، فإنّ ما يُستنتج حتى الآن هو أنّ قرار الحزب يخضع فقط لمزاج الحاكم في إيران الذي حين أرسل وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت في 14 من هذا الشهر تحدّث عن حرص على “أمن وهدوء” لبنان. لكنه من نيويورك حذّر في 26 واشنطن قائلاً: “لا نرحّب بتوسيع نطاق الحرب في المنطقة. لكن إذا استمرّت الإبادة الجماعية في غزّة فلن يسلموا من هذه النار”. بمعنى أنّ لتغيّر هذا المزاج فقط ما يؤثّر على قرارات الحزب المستقبلية في صدد تلك الحرب.
نقاش داخل الحزب
يعرض الحزب على لسان متحدّثيه وصفات ووجوه لموقفه من هذه الحرب. لكن في 28 من الجاري اختصر علي فياض النائب البرلماني والقيادي في الحزب النقاش، وحذّر إسرائيل من دفع ثمن يفوق مخيلتها “إذا ما شنّت عدواناً على لبنان”. أمر الحرب الكبرى إذن يتعلّق بإسرائيل وليس بالحزب. في 27 من هذا الشهر، قالت وكالة تسنيم الإيرانية إنّ “جهات في محور المقاومة تسلّمت رسالة أميركية تؤكد أنه لا نية لواشنطن بفتح جبهات جديدة”. الأمر إذن يتعلّق بقرار أميركي.
إقرأ أيضاً: لماذا “طوفان” الغرب في دعم إسرائيل؟
من خليط ضجيج تلك الصياغات للموقف من الحرب يطلّ الحزب من خلال مداخلات حلفائه من الشخصيات اللبنانية التي لا تنطق إلا بوحي يوحى تكشف مزاجه ونوازعه حتى الآن. تقول تلك الأصوات والحزب من ورائها إنّ “لبنان لا يريد الحرب ولا يتحمّلها”، وتستخفّ بهتافات “يا سيّد يلا”، وتستنكر الدعوات من الفنادق (في الغمز من قناة خالد مشعل) لفتح الحدود من جنوب لبنان. تضاف هذه الرسائل “اللبنانية” للحزب إلى سكوته تماماً عن كلّ الدعوات السياسية التي يطلقها خصومه لثنيه عن إدخال لبنان في مغامرة كارثية، ذلك ربما لأنّ الخصوم يعبّرون أيضاً عن نقاش داخل الحزب نفسه صار من الصعب وأده.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@