لا خلاف على أنّ أنقرة وطهران تسيران على حبلين رفيعين في التعامل مع تطورات المشهد السياسي والعسكري في قطاع غزة وبين أيدي قادة تركيا وإيران سلال البيض الواجب حمايته. لا خلاف أيضاً على تباعد مواقفهما وسياساتهما ومصالحهما في الملف حتى لو كان هناك التقاء في المواقف الداعمة لحركة حماس والمندّدة بإسرائيل وعدوانها الواسع على غزة.
تحذر القيادات التركية من اتساع رقعة المعارك في قطاع غزة إذا ما قررت تل أبيب تنفيذ تهديداتها والقيام بعملية برية قد تؤدي إلى انتقال المواجهات إلى مناطق جديدة في الإقليم. ما الذي ستفعله أنقرة عندها أمام سيناريو من هذا النوع؟ وهل يشكل ذلك سببا كافيا لدفع تركيا باتجاه التنسيق مع إيران في مواجهة الوجود العسكري الأميركي في سوريا والعراق وشرق المتوسط، خصوصا بعد إرسال واشنطن لحاملتي الطائرات فورد وأيزنهاور دفعة واحدة إلى شرق المتوسط بهدف حماية إسرائيل إقليميا بقرار من الرئيس جو بايدن؟
ربّت رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو على كتف بايدن الذي فتح الطريق على وسعها أمامه ليردّ كما يشاء على عملية حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم. دول المنطقة قلقة ومنزعجة من مواصلة تل أبيب تصعيدها العسكري في غزة على هذا النحو، وهي فشلت حتّى الآن في طرح الخيارات والبدائل في مواجهة التحالف الغربي الداعم لإسرائيل هناك.
لا خلاف على أنّ أنقرة وطهران تسيران على حبلين رفيعين في التعامل مع تطورات المشهد السياسي والعسكري في قطاع غزة وبين أيدي قادة تركيا وإيران سلال البيض الواجب حمايته
تركيا وإيران: لن تحاربا
تركيا وإيران بين الأطراف المعنية بما يجري بسبب ارتداداته على مصالحهما وتحالفاتهما ونفوذهما في المنطقة. تلتقي مواقفهما في مكان لكنها تتباعد في أمكنة أخرى. لن يدخل البلدان في حرب مع إسرائيل بسبب ما يدور في غزّة لأكثر من سبب. أنقرة التي طبّعت علاقاتها مع تل أبيب وكانت تستعد لاستقبال نتانياهو لبحث أكثر من ملف تجاري وعسكري واستراتيجي في شرق المتوسط، وبدأت سياسة متوازنة حيال الطرفين الفلسطينيَّين في غزة والضفة الغربية تمهّد لحلحلة دائمة للصراع مع إسرائيل، لن تعود إلى الوراء، إلى سنوات الخصومة والقطيعة والتصعيد. تريد إيجاد حلّ سريع ينهي الأزمة في غزّة ويحول دون الاستثمار السياسي والأمني الذي يبحث عنه البعض على حسابها.
من ناحيتها لا تريد طهران الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل. لا حدود مشتركة بينهما أصلاً لتفعل ذلك. أفضل خياراتها بدل الدخول في مغامرة قاسية والسير في المجهول، أن تلعب أوراق وكلائها في المنطقة، في لبنان وسوريا والعراق واليمن للتذكير بحصتها ونفوذها.
تحاول أنقرة في سياستها الخارجية الجديدة البقاء على الحياد أو على مسافة واحدة في ملفات توتر لا تهدًد أمنها القومي بشكل مباشر. لا تريد تعريض جسور التواصل التي شيّدتها مع تل أبيب في العامين الأخيرين للخطر. تتمسك بالتنسيق الإقليمي الحاصل عن طريق طرح التهدئة وعرض الوساطة والدعوة إلى الابتعاد عن توسيع رقعة القتال. لكنّها تنتقد واشنطن ودعمها اللامحدود لتل أبيب وتدعو العواصم الغربية إلى الضغط أكثر على إسرائيل كي تتراجع عن العنف والوحشية اللذين تستخدمهما ضد سكان غزة.
طهران التي لا تقيم علاقات مع إسرائيل والكثير من العواصم الغربية ولها مشاكل مزمنة مع الكثير من جيرانها في الإقليم، تتبنّى بالمقابل نهجاً مغايراً للنهج التركي. تقول إنّ تهديد أمنها هو الوحيد الذي قد يدفعها إلى دخول الحروب، لكن جعبتها لا تخلو من المفاجآت.
تقول قناعات تركية كثيرة ان بين المستحيلات دخول ايران وأميركا في مواجهة عسكرية مباشرة في المنطقة، لأن كلا الطرفين يدرك أنّه سيخرج خاسراً منها. ربما هذا بين ما يقلق أنقرة ويدفعها إلى الحذر وهي تصعّد في موضوع غزّة.
لا تريد طهران الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل. لا حدود مشتركة بينهما أصلاً لتفعل ذلك. أفضل خياراتها بدل الدخول في مغامرة قاسية والسير في المجهول، أن تلعب أوراق وكلائها في المنطقة
طهران قد تفاجىء الجميع
“ميتافور” (المنهج السياسي) أنقرة في الحرب التي تشنها تل أبيب على غزة يختلف عن “ميتافور” طهران وما تقوله وتريده. أنقرة تطرح الحلول وتدخل على خط الوساطة بين طرفي النزاع. حسابات طهران مغايرة تماماً وقابلة لتسجيل اختراق في مسار اللعبة، وهذا ليس بجديد عليها. قد تلتقي حسابات واشنطن وطهران لناحية إطالة عمر الحرب في غزّة وتعقيد الملف وتوسيع رقعة انتشاره بما يخدم مصالحهما وحساباتهما هناك، وهذا من بين ما يقلق أنقرة أيضاً.
كل هذا التصلب قائم في سياسة تركيا الأميركية على الرغم من التحول في سياستها العربية والإسرائيلية، وتمسّكها بمسار تحسين وتحصين العلاقات مع روسيا، وإصرارها على استهداف حليف واشنطن المحلي في سوريا والحؤول دون تنفيذ مخططها في مناطق الحدود السورية العراقية. قد يكون بين أسبابها تجنب الوقوع في مصيدة أميركية – إيرانية على حساب مصالحها في المنطقة. جائزة الترضية الأميركية الإيرانية قد تكون في ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعلى حسابها وحساب العديد من اللاعبين الإقليميين.
قد تفاجىء طهران العرب والأتراك بتفاهمات مع واشنطن في غزّة عندما ترى في ذلك ضرورة. فعلت ذلك من قبل في العراق وفي الملف النووي وفي مقايضات سياسية وأمنية عبر شركاء محليين في لبنان وسوريا واليمن، ولن يكون من الصعب عليها المساومة على ورقة حماس إذا ما شعرت انها ستكون مربحة إقليمياً.
مواقف أنقرة المعلنة حتى الآن حيال تطورات المشهد في غزة قد لا تستمرعلى هذا المنوال. احتمال التقاء المواقف التركية الإيرانية في ملف غزّة ممكن ربما بالشقّ الفلسطيني، لكن في الشقّ المتعلق بالموقف حيال تل أبيب ستختلف الأمور كلياً. توجد حقيقة أخرى وهي أنّه حتى لو تقاربت المواقف التركية والإيرانية في التعامل مع ورطة إسرائيل في غزّة، فلن تلتقي حيال التحرك العسكري الأميركي. ما يتطلع إليه كل طرف يختلف في الحسابات والأهداف.
التصعيد الإسرائيلي الواسع في غزة ومواصلة استهداف المدنيين وقرار تحريك القوات البرّية لاقتحام القطاع لن تكون كافية لخلط الأوراق من جديد بين أنقرة وطهران وتقريب مواقفهما في موضوع مواجهة تل أبيب
لا تريد أنقرة بعد الآن التجديف وسط بحر إقليمي هائج تتضارب فيه المصالح والحسابات وتخرج هي متضررة في أكثر الأحيان. أنقرة تغامر بوضع أصابعها تحت الحجر لإزاحته من منتصف الطريق، بينما طهران يهمها بقاء الحجر في مكانه لعرقلة تقدم أي مسار على حساب مصالحها.
حماس مقابل نتانياهو
بعد تلويح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بكل الاحتمالات في حال استمرت الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، دخل نائب قائد “الحرس الثوري” الإيراني علي فدوي على الخط ليكون أكثر وضوحاً وحزماً: “إذا اجتاحت إسرائيل غزّة فإن محور المقاومة سيردّ”.
في المقابل قرّرت واشنطن إرسال مجموعة من الخبراء والمستشارين العسكريين الذين خدموا في أفغانستان والعراق وسوريا إلى إسرائيل لتقاسم الخبرات والتجارب مع القيادات الإسرائيلية. في هذه الأثناء وصلت الشجاعة لدى أحد الأقلام التركية المعارضة لطرح معادلة “إنقاذ فلسطين من حماس مقابل إنقاذ إسرائيل من نتانياهو”.
ليس القرار هنا بيد الطرفين بل بيد الشعبين، وسيكون نتيجة أصعب النقاشات التي قد تبدأ بعد الخروج من محنة غزة وعند انطلاق عملية خلط الأوراق المحلية والإقليمية من جديد. لكن معادلة من هذا النوع قد تخدم حسابات واشنطن وطهران إقليميا أيضا.
قد تلتقي المواقف والطروحات التركية الإيرانية عند نقاط سبل التسوية العادلة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وحلّ الدولتين، لكنها متباعدة كثيراً في طروحات وتقديرات مسار التطورات العسكرية والميدانية والسيناريوهات المحتملة عند انفجار الوضع الإقليمي.
إقرأ أيضاً: غزّة: هل يستطيع أردوغان منع العملية البريّة؟
تتعارض الأهداف التركية والإيرانية وتتضارب المصالح في غزة. تبحث أنقرة من خلال التحول الحاصل في سياساتها الإقليمية ومحاولة التوسط بين الجناحين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، عن دور أكبر يذهب باتجاه الوساطة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. طهران يهمها أكثر استمرار التباعد بين حماس والسلطة الفلسطينية وعرقلة أية تفاهمات فلسطينية إسرائيلية على حساب مصالحها في المنطقة. ما قاله وزير خارجية تركيا هاكان فيدان في بيروت يتباعد كليّاً عمّا ردّده نظيره الإيراني من هناك. الأوّل يتحدث عن الوساطات والتهدئة، والأخير يلوّح بورقة محور الممانعة وفتح جبهات جديدة.
التصعيد الإسرائيلي الواسع في غزة ومواصلة استهداف المدنيين وقرار تحريك القوات البرّية لاقتحام القطاع لن تكون كافية لخلط الأوراق من جديد بين أنقرة وطهران وتقريب مواقفهما في موضوع مواجهة تل أبيب.
لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@