“خلال الأزمات والحروب، كلّ المواطنين في العصر الحديث يبدون كأنّهم منبوذون ومستباحون داخل حالة من الحظر السياسي، وهنا تبدأ صناعة الوجه الجديد للتوازنات السياسية”.
الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين (بتصرّف)
“لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
شعار أثير يتم من خلاله إسكات أي انتقادات يمكن أن توجَّه إلى أي طرف سياسي في العالم العربي، بحجّة الحرب مع العدوّ. وإن كانت حقوق الملكية الفكرية لهذا الشعار تعود إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي قصد به الدعوة إلى الوحدة في زمن الحرب، وهو الذي حارب فعلاً الغرب وانتصر في 1956… إلا أنّها تحوّلت إلى شعار يرمز إلى استبداد بعض الأنظمة العربية، بحجّة الصراع مع العدوّ الإسرائيلي.
هذا الشعار يزرعه الحزب وأذرعه في لبنان والمنطقة لخنق أي اعتراض أو تساؤل سياسي حول قرار الحرب والسلم. المفارقة أن الاصوات نفسها التي تلتحف بهذا الشعار، لا تتوقف عن الاستعانة بمقالات من الصحافة الإسرائيلية لإظهار حجم الانتقادات الموجهة الى رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو وحكومته.
فما تزال الصحف الإسرائيلية تحفل بالانتقادات الشديدة الأوصاف ضد الحكومة، على الرغم من أن قوانين الطوارئ السارية منذ أيام الانتداب البريطاني، مع إضافة بعض التعديلات إليها بين الحين والآخر، تجيز للرقيب العسكري وفقاً للمواد 87 – 97 إخضاع المقالات للفحص قبل نشرها، خصوصاً خلال الحروب. وإسرائيل في حالة حرب مستمرّة. فضلاً عن محاولة وزير الاتصالات الحصول من الحكومة على صلاحيات استثنائية لتكبيل الصحافة أكثر منذ 7 أكتوبر (تشرين الأوّل)، علماً أن إسرائيل تحتلّ المركز الـ110 في المؤشر العالمي لحرية الصحافة. وهي مرتبة متأخّرة جدّاً. قرقعة السلاح لا تلغي النقاش السياسي، فما الحرب إلا استمرار للسياسة إنما بوسائل أخرى.
خلال الأزمات والحروب، كلّ المواطنين في العصر الحديث يبدون كأنّهم منبوذون ومستباحون داخل حالة من الحظر السياسي، وهنا تبدأ صناعة الوجه الجديد للتوازنات السياسية
حماس لاند وجهاد لاند؟
في البدء كان الحزب وحده على الجبهة. ثم دخلت الفصائل الفلسطينية على الخط فطالعتنا بيانات تعلن عن صواريخ أطلقتها “حماس” وأخرى “الجهاد الإسلامي”. بعدها بدأت قوات الفجر، الذراع العسكري للجماعة الإسلامية، بالإعلان عن عمليات عسكرية على الحدود، الأمر الذي شكّل مفاجأة لدى الكثير من المتابعين.
لكنّ سلسلة المفاجآت لم ولن تتوقّف. فبعد الفجر، دخلت سرايا المقاومة، وأعلنت في بيان رسمي عن سقوط شهيدين لها… و”الحبل عالجرّار”.
فممّن حصل هؤلاء والذين سيتلونهم على التكليف؟
هذا هو السؤال الذي لم يطرح في النقاشات التي أعقبت بيان قوات الفجر، على اعتبار أنه محسوم الإجابة. وكيف مرّ هؤلاء على نقاط الجيش وتجاوزوا رقابة اليونيفيل؟ وممّن حصلوا على السلاح؟
هنا بالضبط يظهر مدى انطباق مقولة أغامبين عن “الدولة ذات البنى المزدوجة”، أي الدول التي تتمتع بواجهة ديمقراطية شكلية. وكتاب أغامبين بعنوان “الإنسان المستباح: السلطة السيادية والحياة العارية” الصادر عام 1995، أحدث ضجة كبيرة، وكان من الكتب الأكثر مبيعاً، إذ قدّم مراجعة نقدية لمجمل الفلسفة السياسية التي بني عليها الغرب الحديث، وفكّك الخطاب الليبرالي المنتصر الذي يتغنّى بتاريخ المؤسسات الغربية وتفوّقها على خصومها الأيديولوجيين مثل الحضارات الإسلامية والآسيوية، والأنظمة الشيوعية.
وفق منطقه فإنّ هناك مؤسسات موازية لتلك الرسمية في “الدولة ذات البنى المزدوجة”، أقوى منها وأكثر تأثيراً في قرار الدولة، حيث يبدو مجلس الوزراء اللبناني كأنّه صندوق بريد تقتصر مهمته على استقبال الرسائل وإيصالها، أو شاهد زور. فإذا كان سلاح الحزب يحظى بمشروعية “المقاومة”، فمن أين تأتي مشروعية “حماس” و”الجهاد” لإعادة تذكيرنا وتحويل جنوب لبنان إلى “حماس لاند” و”جهاد لاند”؟
ثمة مناخ من التخوّف السائد لدى شريحة واسعة من اللبنانيين من قرار الحرب المنتزع من الدولة من قبل فريق واحد. هذا الفريق يعي تماماً عدم وجود غطاء وطني لقرار الحرب. لذا أدخل جماعات وفرقاً سنّية، على أن تليها تيارات وأحزاب أخرى علمانية، من أجل حياكة مظلّة غطاء وطني مزعوم لتوجّهه صوب الحرب لأنّه يعرف أنّ كلفة الحرب ستكون مرتفعة، وربما يريد أن يكون “واحداً من كثيرين” اتّخذوا هذا القرار، لئلا يكون الوحيد في تحمّل اللوم بعد تدمير لبنان.
طبعاً “الحزب هو المتحكم بمقدار مشاركة أي جهة على صعيد الكمّ والكيف والتسليح واللوجستيات”، كما تفيد أوساط قريبة منه. وحسب الأوساط نفسها، فإن “القتال والتصدي محصوران فقط بأبناء القرى والبلدات الحدودية، والفرصة متاحة أمام كل مقاتل موجود بالجنوب للمشاركة إنّما تحت إدارة دقيقة جداً من الحزب”، أي أنّ الحزب الذي استخدم تحالف الملالي مع نظام الوصاية السوري للتفرد بالمقاومة في جنوب لبنان خلال تسعينيات القرن الماضي، وإبعاد وتصفية كل من سبقوه على هذا الدرب منذ الثمانينيات وطوال فترة التسعينيات، هو نفسه من لم يعُد ليسمح لهم بالمشاركة، إنما ليستخدمهم كأوراق لعب على طاولة الحرب الكبرى، سليلة نظرية “وحدة الساحات”.
الحزب هو المتحكم بمقدار مشاركة أي جهة على صعيد الكمّ والكيف والتسليح واللوجستيات، كما تفيد أوساط قريبة منه. وحسب الأوساط نفسها، فإن القتال والتصدي محصوران فقط بأبناء القرى والبلدات الحدودية
الحكومة الغائبة ورئيسُها الساكت
إذا ما سأل سائل عن كيفية اشتراك كل هذه الفرق في ما يعيد إحياء ذاكرة اللبنانيين عن “فتح لاند” والميليشيات المتناسلة بهويات مختلفة، يكون الجواب هو التذكير بالمعادلة “الخشبية”: “جيش وشعب ومقاومة” التي زيّنت بياناً وزارياً واحداً في حكومة الانقلاب التي شكلها الرئيس ميقاتي في العام 2011. وهي عملياً التي تحدّ من قدرة الجيش على لجم هذا الانفلات العسكري الذي يجري تحت عنوان مطاط هو “المقاومة”.
ألا يشكل هذا التحشيد خرقاً لـ1701 يمكن أن تستخدمه إسرائيل لزيادة حجم التعاطف العالمي معها؟ أبعد من ذلك: أليس ذلك خرقاً لاتفاق الطائف؟
يعتبر الخبير العسكري العميد خالد حمادة أن “الحزب يدفع بأحزاب وجماعات لبنانية الى الواجهة، للتخلص من وصمه بالميليشيات الإيرانية، وللبحث عن مظلة وطنية، ولتضييع المسؤولية من خلال القول إن الاعتداءات الإسرائيلية هي السبب في اندفاع أفرقاء لبنانيين للدفاع عن مناطقهم. لكن ما يحصل على الحدود في الجنوب يشكّل خرقاً واضحاً للـ1701، وكذلك لاتفاق الطائف”. ويتساءل “من يضمن أن لا يكون مقاتلو الحزب يتدثّرون بأردية أحزاب أخرى؟”.
يستهجن حمادة “غياب الحكومة وخصوصاً رئيسها نجيب ميقاتي عن القيام بأبسط الواجبات”. ويذكّر بأنه “يمكن للحكومة، استناداً الى قانون الدفاع الوطني (المواد 2 و3 و4 منه)، إعلان حالة التأهب أو الطوارئ أو التعبئة بشكل كلي أو جزئي. كما يمكنها بموجب الصلاحيات الممنوحة لها أن تعلن الجنوب أو جزءاً منه منطقة عسكرية، مع ما يلي ذلك من تدابير تنظيمية مثل منع حمل السلاح وغيره، أو أن تقوم باستدعاء الاحتياط لحفظ الأمن والحؤول دون توريط لبنان في حرب سيدفع ثمنها الشعب اللبناني بأسره”. ويختم حمادة متسائلاً: “من يضمن عدم تمدد المسلحين نحو مناطق أخرى مثل صيدا وغيرها وربما بيروت نفسها؟”.
مصدر قيادي في القوات اللبنانية إن ما يحصل من انفلات عسكري على الحدود الجنوبية يشكل خرقاً لأبسط مفاهيم الدولة والمؤسسات، ويشكل أيضاً خرقاً للـ1701، ولاتفاق الطائف
الدويلة تقرّر… الدولة تتفرّج
في المقابل، يقول مصدر قيادي في القوات اللبنانية إن ما يحصل من انفلات عسكري على الحدود الجنوبية “يشكل خرقاً لأبسط مفاهيم الدولة والمؤسسات، ويشكل أيضاً خرقاً للـ1701، ولاتفاق الطائف الذي ألزم كل الميليشيات بتسليم سلاحها للدولة اللبنانية”. وكان صوت القوات هو الصوت الوحيد في الخريطة السياسية الذي ارتفع اعتراضاً على عمليات الحزب وغيره من جنوب لبنان تزامناً مع الحرب الإسرائيلية على غزّة.
يعتبر المصدر نفسه أن “الحزب يحاول أن يكرس قواعد مختلفة عن القواعد الطبيعية لبناء أي دولة، وأن يشرّع “الحزب لاند” على نسق “فتح لاند” من خلال الإيحاء بأنه لا توجد طائفة واحدة متبنّية لقضية المقاومة، بل إن ذلك يشمل كل الطوائف، وهذا عائد لغياب المؤسسات التي يجري تفريغها عمداً وعلى رأسها رئاسة الجمهورية، وغلبة مشروع الدويلة على مشروع الدولة”.
الأسوأ من كل ذلك حسب المصدر القواتي أنّ “ثمة حزبا واحدا يستأثر بقرار الحرب ويورط لبنان، لكن التداعيات ستطال الشعب اللبناني بأسره بكل فئاته”. إذاً والحال هذه لماذا يبدو صوت الكتل والأحزاب المعارضة للحزب خافتاً وكأنها مؤيدة له ضمناً في ما يقوم به، أو لا حول لها ولا قوّة؟
يجيب المصدر القواتي بأنه “أمام مشهد قتل الأطفال والأبرياء تصبح بعض التصريحات خارج إطار الزمان والمكان، خاصة أنّ ثمة بعض القضايا الحساسة والجدلية في التاريخ اللبناني. لذلك، ومنعاً لإثارة الحساسيات، أصبح موقف المعارضة خافتاً”. ويذكّر بأن “موقف المعارضة واضح في دعم القضية الفلسطينية بالمطلق، ودعم مبادرة السلام العربية التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002، والتي تنص على قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف، ورفض توطين الفلسطينيين في الشتات مقابل السلام”.
إقرأ أيضاً: خطّة الحزب للنزوح والإيواء: أسطورة عكارية؟
مع ذلك، يبدو اللبنانيون منبوذين ومستباحين ضمن إطار حرم سياسي مفروض عليهم، كما قال أغامبين، ويخضعون لترهيب قوى الممانعة والشعار الممجوج بأن “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، إلا أنه كما قال أغامبين أيضاً: “هنا تبدأ المرحلة التالية من صناعة اللعبة السياسية الجديدة”. فما يجري اليوم هو خرق لواحد من أهم بنود اتفاق الطائف من خلال إعادة إنتاج للميليشيات بثوب “جبهة وطنية” جديدة يملك ناصيتها الحزب وحده.
بعد حرب تموز 2006 تحوّل الحزب إلى السيطرة على قرار الدولة، فبدأ يطالب بالمثالثة أولاً، ثم بحق الفيتو في النظام الذي عاد وحصل عليه عقب اجتياح 7 أيار 2008. وبالتالي من يضمن ألا يطالب في اليوم التالي لانتهاء الحرب بطي صفحة الطائف نهائياً، وهو الذي عارضه دائماً، وخرقه مراراً وتكراراً؟
ربما يتذرع بالخروقات نفسها التي نتحدث عنها اليوم. إن لم يكن ذلك مباشرة، فمواربة عن طريق حليفه العوني، الخصم الدائم للطائف.