فلسطين تُعيد إسرائيل إلى “الفحم” الحجريّ

مدة القراءة 8 د


سقطت إسرائيل في امتحان غزّة، ليس فقط عسكرياً في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، ولا فقط أخلاقياً وقانونياً من خلال مجازرها واعتدائها على المواثيق الدولية، بل أيضاً اقتصادياً بالدرجة الأولى.

ولوضع هشاشة هذا الكيان في إطار المعلومات والأرقام بعيداً عن العواطف والتمنّيات، نشير إلى جملة حقائق معروفة، أهمّها:

– أنّ تلك “الدولة” المتفوّقة احتاجت يوم 7 تشرين الأول إلى أكثر من 24 ساعة لمعرفة (فقط لمعرفة) ماذا يحدث في مستوطناتها، بل في مقرّ قيادة “فرقة غزّة”.

– واحتاجت إلى 24 ساعة لتحريك أول طائرة هليكوبتر للردّ على اقتحام حدودها و”احتلال أراضيها”.

– وخلال أقلّ من أسبوع على حرب غير متكافئة بكلّ المقاييس، بل حرب من جانب واحد، انهارت الدعائم الاقتصادية والمعيشية لهذا الكيان المتفوّق، بسبب رشقات صواريخ بدائية محلّية الصنع بالغالب الأعمّ.

سقطت إسرائيل في امتحان غزّة، ليس فقط عسكرياً في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، ولا فقط أخلاقياً وقانونياً من خلال مجازرها واعتدائها على المواثيق الدولية، بل أيضاً اقتصادياً بالدرجة الأولى

– الخسائر الفادحة في القطاعات الرئيسية مثل قطاع تكنولوجيا المعلومات الذي يشكّل أكثر من نصف قيمة الصادرات الإسرائيلية البالغة 165 مليار دولار. فقد أقدمت الشركات الكبرى على وقف أعمالها بسبب هروب بعض موظّفيها واستدعاء بعضهم الآخر للحرب.

– خسائر قطاع السياحة التي تقارب 6 مليارات دولار.

– التكاليف المباشرة للحرب التي تقدَّر بنحو 400 مليون دولار يومياً.

إعادة إسرائيل إلى الفحم الحجريّ

لنكتفِ بالإشارة إلى قطاع الطاقة الذي بات يشكّل ركناً رئيسياً في الاقتصاد. فإسرائيل هدّدت بإعادة غزّة إلى العصر الحجري. وقد يتحقّق ذلك أو لا يتحقّق. لكن ما تحقّق فعلاً هو أنّ إسرائيل عادت إلى الفحم الحجري والنفط لتوليد الكهرباء في الأسبوع الأول من العدوان على غزّة.

فقد أعلنت وزارة الطاقة في 9 تشرين الأول وقف العمل في حقل تمار الذي يبلغ إنتاجه حوالى 10.2 مليارات متر مكعب، ويوفر نحو 70 في المئة من حاجة إسرائيل للكهرباء. ثمّ أعلنت في 10 تشرين الأول وقف ضخّ الغاز في خطّ أنابيب شرق المتوسط (EMG)، الذي يربط مدينة عسقلان بالعريش في مصر.

أمّا الأدهى من ذلك فهو احتمال كبير لإقفال الحقول الشمالية التي تضمّ حقل ليفياثان الذي يُعتبر درّة التاج في صناعة الغاز الإسرائيلية. إذ يبلغ إنتاجه حوالي 11.5 مليار متر مكعب. ويشكّل تعطّل قطاع الغاز في إسرائيل ضربة قاصمة لأنّ حصّته ارتفعت من صفر في المئة عام 2000 إلى 40 في المئة من إجمالي مزيج الطاقة، وإلى 75 في المئة من توليد الكهرباء. كما يشكّل تعطّله ضربة أكبر لطموحات وخطط إسرائيل لتكون المحور الإقليمي للغاز في شرق المتوسط، ولاندماجها في اقتصادات المنطقة.

من المعروف أنّ كلّ بنية الغاز بتكاليفها البالغة عشرات مليارات الدولارات، يمكن تعطيلها برشقة صواريخ لا تتعدّى تكاليفها بضعة آلاف الدولارات. وخطورة هذه الحقيقة تتجاوز اضطرار إسرائيل إلى العودة لاستخدام الفحم والنفط لتوليد الكهرباء لتطال اهتزاز ثقة الشركات بالاستثمار في قطاع الغاز الإسرائيلي. فهذه الشركات على الرغم من ارتباطاتها السياسية “تشتغل بيزنس.”

الحلّ من إيران بخطّ إيلات ـ عسقلان

لكن حتى استيراد النفط سيواجه مشكلة أكبر. فإسرائيل كما هو معروف لديها محطتان للتكرير، واحدة في حيفا بطاقة إنتاجية تبلغ حوالي 200 ألف برميل يومياً والثانية في أشدود وطاقتها حوالي 110 آلاف برميل. وتعتمد إسرائيل في استيراد النفط على ميناء عسقلان الذي يمتاز بقدرة تخزين تبلغ 2.3 مليون متر مكعب. ولم يكن مصير هذا الميناء أفضل من مصير حقل تمار. فقد أدّت الحرب إلى وقف العمل فيه وفي مصفاة أشدود. ومع أنّه لم يتمّ إعلان الإغلاق رسمياً، حفاظاً على الروح المعنوية للإسرائيليين، فقد بدأت إسرائيل بتحويل شحنات النفط إلى ميناء إيلات. ونقلت وكالة بلومبرغ أنّ ناقلة النفط Seaviolet  المحمّلة بنحو مليون برميل نفط من أذربيجان، تمّ تحويلها إلى ميناء إيلات بتاريخ 20 تشرين الأول. فأصبح خطّ إيلات ـ عسقلان هو الحلّ الوحيد المتاح أمام إسرائيل. وهذا الخطّ بدأ تشغيله كمشروع مشترك بين إيران وإسرائيل في عام 1968 لزيادة صادرات النفط الإيراني ولتزويد إسرائيل بحاجتها من النفط. وتوقّف العمل به بعد الثورة الإسلامية في إيران وقيام إسرائيل بمصادرته. وتمّ في عام 2000 توسيع الخطّ ببناء خطّ موازٍ عكسي (عسقلان – إيلات) لنقل النفط من روسيا وأذربيجان والقوقاز إلى آسيا. ولم تستخدم إسرائيل ميناء إيلات لاستقبال واردات النفط الخام منذ عدّة سنوات.

أمّا على المستوى الإسرائيلي فيمكن القول إنّ حمّام الدم الذي يُغرق غزّة حالياً سيُغرق أيضاً نتانياهو واليمين المتطرّف الرافض لفكرة إقامة الدولة الفلسطينية

والواضح أنّ هذا “الكيان المتفوّق” قد يعجز عن حماية ميناء إيلات واستخدامه كما عجز عن حماية واستخدام ميناء عسقلان ومصفاة أشدود. فقد سقط يوم 22 تشرين الأول الجاري أوّل صاروخ قرب ميناء إيلات حاملاً رسالة بالغة الدلالة. فهل تضحّي أميركا بمصالحها أم باليمين الإسرائيلي بقيادة نتانياهو؟ وهل تضحّي فلسطين بفرصة استعادة الأرض وبناء الدولة أم بالجناح العسكري لحماس بقيادة يحيى السنوار؟

في العودة إلى السياسة

بعيداً عن تهويل إسرائيل بتهجير أهل غزة وتدمير حركة حماس، وبعيداً عن تهليل الممانعة للانتصار الساحق، ومحاولة توظيفه أو “تقريشه” في المفاوضات مع أميركا، فقد أثبت العدوان على غزة حقيقتين:

الأولى أنّ الشعب الفلسطيني، بكلّ تلاوينه السياسية، عصيّ على الهزيمة، وعصيٌّ على التوظيف السياسي والمذهبي، وأنّ فلسطين لا تشيخ و”ستبقى حبّالة ولّادة” لأجيال متشبّثة بالأرض والحقّ بالحياة.

الثانية أنّ إسرائيل كيان هشّ تفوّق بضعف “أعدائه” لا بقوّته، ويتحوّل خلال أقلّ من أسبوعين من دولة متفوّقة في مجالات السياسة والاقتصاد وتكنولوجيا المعلومات والغاز إلخ… إلى قاعدة عسكرية يديرها جنرال أميركي بعد فشل قادة جيشها في إدارتها، ويتحوّل من محور إقليمي اقتصادي وتجاري ونفطي إلى كيان معزول يحتاج إلى “فزعة” أميركية ـ غربية وتدخّل عسكري مباشر لإنقاذه وإعادة تثبيت دوره.

عليه يصبح السؤال المنطقي: هل يشكّل مزيج “غزوة” 7 أكتوبر وموجة جنون القتل والتدمير الإسرائيلية نقطة تحوُّل في السياسة الأميركية باتجاه اعتماد حلّ الدولتين بعد تفكيك عدد كبير من المستوطنات لإيجاد أرض تقام عليها دولة فلسطين. وهذا الأمر يتطلّب إحداث تغيير جذري في التركيبة السياسية الإسرائيلية، وتغيير جذري مشابه في التركيبة السياسية الفلسطينية، أي إزاحة اليمين المتطرّف الذي حكم إسرائيل منذ اغتيال إسحاق رابين، وإزاحة الحركة الجهادية التي تزامن صعودها مع الاغتيال، وحينها تقاطعت مصالح الطرفين على تعطيل عمليّة السلام.

التسوية تحقّق مصالح أميركا

ما يعطي السؤال مشروعيّته هو أنّ الشرق الأوسط يُعتبر حالياً منطقة نفوذ صافية للولايات المتحدة. وذلك بعد تراجع أو اضمحلال التأثير الروسي، وفي ظلّ عدم رغبة وقدرة الصين على التورّط في نزاعات المنطقة. إلا إذا افترضنا أنّ إيران هي القوّة المنافسة لأميركا بدلاً من روسيا والصين، وهو افتراض عقيم لا يستقيم. وبالتالي، باتت أميركا والدول الغربية عموماً أمام خيارين شديدَي الوضوح، وهما إمّا الدفاع عن التركيبة الإسرائيلية والتضحية بمصالحها ونفوذها في المنطقة، وإمّا التضحية بهذه التركيبة.

بهذا المعنى يصحّ القول إنّ أميركا ستضع كلّ ثقلها لإحداث التغيير الجذري المطلوب. وطبعاً ستكون الأولوية للتغيير على المستوى الفلسطيني. وذلك عن طريق إلحاق هزيمة مؤكّدة بالجناح العسكري لحركة حماس. وهو المصطلح المرجّح أن يطفو على السطح في قادم الأيام كمقدّمة لإعادة تشكيل السلطة الفلسطينية التي ستضمّ قطعاً الجناح السياسي للحركة ببعده العقائدي ـ الماليّ (تركيا وقطر) وببعده السياسي ـ الأمني (مصر).

إقرأ أيضاً: غزّة تقسّم أميركا: حزبياً وسياسياً وأمنياً وشعبياً…

أمّا على المستوى الإسرائيلي فيمكن القول إنّ حمّام الدم الذي يُغرق غزّة حالياً سيُغرق أيضاً نتانياهو واليمين المتطرّف الرافض لفكرة إقامة الدولة الفلسطينية. كما أنّ الهزيمة المذلّة للجيش الإسرائيلي، وانهيار ثقة المستوطنين بقدرة هذا الجيش على توفير الحماية والأمن لهم، يشكّلان عاملاً رئيسياً في إحداث التغيير المنشود. وهذا الشكّ في قدرات الجيش ظهر في حرب 2006. ولنتذكّر حالة الإرباك وتقاذف المسؤوليات بين “المستويين” العسكري والسياسي. وقد تنفع في هذا السياق إعادة قراءة تقرير فينوغراد الذي صدر عن لجنة تحقيق إسرائيلية حول إخفاقات الجيش خلال حرب تموز 2006. يضاف إلى ذلك العامل الأهمّ، وهو اهتزاز ثقة مجتمع الأعمال والمستثمرين والكفاءات والمهنيين والمهاجرين بإمكانية الاستثمار والعيش في ظلّ “هكذا دولة.”

* يُنشر بالتزامن مع موقع ومجلّة طاقة الشرق.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…