كان غريباً أن يأتي الصوت الفلسطيني الأعلى، والأكثر عقلانيةً وصواباً، والأقرب إلى قلوب العرب، من سفير فلسطين في لندن، وليس من أحد قيادات السلطة الفلسطينية في الداخل، الضفة الغربية تحديداً.
بدا لوهلة أنّنا أمام اكتشاف مفاجىء، “من خارج العلبة”، اسمه “حسام سعيد زملط”. شاب في عامه الخمسين، ولد في عام “العبور” العربي فوق قناة السويس وفوق هزائم العرب، 1973، في مخيّم الشابورة للّاجئين في محافظة رفح في قطاع غزّة، لوالدين مهجّرين من قرية سمسم جنوب فلسطين في منطقة النقب الغربي. فهو مهجّر ابن مهجّر.
ولمع نجمه في عام العبور الثاني، حين فاجأ مقاتلون غزّاويون الفلسطينيين والعرب، قبل الأوروبيين والغربيين عموماً، فاحتلّوا لساعات طويلة “غلاف غزّة” ومستوطناتها وأوقعوا نحو 1400 قتيل وأضعافهم من الجرحى، وأسروا ما يقارب 300 عسكري. فجاءنا من شاشات غربية، رافعاً المواجهة والتحدّي إلى مرتبة جديدة. بلغته الإنكليزية الفصيحة والمتمكّنة، وقدرته العالية على تفنيد رواية الإعلام الغربي للمسألة الفلسطينية، وبرصيده وتربيته الفتحاوية، فتح باباً جديداً من النقاش بين فلسطين و”الغرب”.
على الرغم من أهمية ما يجري على أرض فلسطين، وفي قطاع غزّة تحديداً، من معارك بطولية هيهات تسقط من ذاكرة التاريخ، إلا أنّ المعركة الحقيقية يخوضها السفير الفلسطيني حسام زملط هناك، في لندن، مهد وعد بلفور والمأساة الفلسطينية
بين BBC وCNN: “امتلاك الحكاية”
وقد كانت المقابلة التي انتشرت انتشاراً منقطع النظير ما قاله على قناة BBC البريطانية، مفحماً المذيع الذي حاول استدراجه ليدين حماس، أو ليظهر بثوب المؤّيد لـ”قتل المدنيين الإسرائيليين”: “هل تؤيّد ما فعلته “حماس” صباح يوم السبت؟”. فأجاب زملط: “هذا ليس السؤال الأهمّ. السؤال الأهمّ هو كيف يمكننا وقف المجازر الإسرائيلية التي ستحصل بحقّ المدنيين الفلسطينيين؟ لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تساوي بين الاحتلال والشعب الواقع تحت الاحتلال، هذا لا يخدم العدالة ولن يخدم جمهورك في فهم الصورة الحقيقية”.
وفي مقابلة أخرى على شبكة CNN الأميركية، سألته المذيعة كريستين أمانبور: “أوّلاً وقبل كلّ شيء، هل تدين ما فعلته “حماس” داخل إسرائيل للمدنيين الإسرائيليين؟”. فردّ عليها بثقة: “أوّلاً وقبل كلّ شيء، على الإعلام الغربي التخلّي عن هذا الإطار الذي أدّى بنا إلى ما نحن فيه الآن..”.
في إطلالات أخرى قال بالفم الملآن: “رجاءً توقّفوا. دائماً ما تبدأ مقابلاتكم بطرح هذا السؤال. لن أخوض في هذا الطرح. مليونا فلسطيني محتجزون رهائن من قبل إسرائيل لمدّة 16 سنةً، هل حدث أن طلبت من مسؤول إسرائيلي إدانة هذا العمل؟”، وتابع: “يجب ألّا نستهين بإرادة شعب ورغبته في الحرّية وإنهاء الاحتلال والأسر. هذا لا يتعلّق بـ”حماس” فقط والساعات الماضية. هذا الأمر مستمرّ منذ أكثر من 100 عام. لقد بدأ هنا بالمناسبة في هذه المدينة، لندن. لأنّ بريطانيا هي من سلبتنا حقوقنا من دون استشارتنا”.
الإجابات هذه لم تُطلَق من غزّة. أُطلقت من لندن، وإن كانت من وحي ما يجري في غزّة. لصوتها دويّ أين منه دويّ أصوات الانفجارات والصواريخ والدم المسفوك في قطاع غزّة الذي يتعرّض سكّانه لإبادة جماعية، وتُرتكب في حقّه جرائم أقلّ ما يقال فيها إنّها ضدّ الإنسانية والقوانين والأعراف والأديان والأخلاق وحقوق الإنسان.
بدت إجابات زملط غريبةً في عالم الإعلام الغربي، غريبةً وشجاعةً وحرّةً وصادقة. تلقّفها الرأي العام سريعاً فحصدت الإشادات الواسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولقيت متابعةً واهتماماً في الأوساط كلّها.
قيل إنّه لقّن الإعلام الغربي درساً لا يُنسى. وقيل إنّه فضح دور الغرب في دعم إسرائيل. كتب أحدهم أنّ السفير زملط يخوض حرباً إعلاميّةً لا تقلّ ضراوةً عن الحرب داخل قطاع غزّة. ولعلّها الحرب الوحيدة التي خاضتها “فتح” في السنوات الأخيرة.
نجح زملط في إقناع التسوويّين بأهميّة العمل الدبلوماسي، وخاطب الثوريين بالحقّ الفلسطيني الذي لن تسقطه أيّ اتفاقية أو تسوية
الدراسة والسياسة والمناصب
درس حسام زملط في جامعة بير زيت في رام الله، وتخصّص في الاقتصاد والعلوم السياسية، وقدّم بحثاً بعنوان “اقتصادات العمل في الضفّة الغربية وغزّة”. و”تهجّر” للعلم في عام 2000، فأكمل دراسة الماجستير في دراسات التنمية في كلية لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية، ثمّ حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي الدولي من جامعة لندن عام 2007.
شغل منصب أستاذ السياسة العامة في جامعة بير زيت، وشارك في تأسيس ورئاسة كلية الحقوق والإدارة العامة، وشغل عدداً من المناصب التدريسية والبحثية في جامعة هارفرد وجامعة لندن. وعمل خبيراً اقتصادياً في الأمم المتحدة، وباحثاً اقتصادياً في كلية لندن للاقتصاد، ومعهد فلسطين لبحوث السياسات.
شغل منصب المتحدّث الرسمي باسم الوفد الفلسطيني في عام 2011، وعُيّن سفيراً متجوّلاً لدولة فلسطين، وعمل مديراً لمفوضية حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) للشؤون الخارجية، وبعد ذلك أصبح مستشاراً للشؤون الاستراتيجية للرئيس الفلسطيني محمود عباس عام 2015، قبل انتخابه عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح عام 2016.
وريث محمود عباس؟
وسط كلّ هذا، قيل أنّه أمهر من يجيد مخاطبة الفلسطينيين، بمختلف فئاتهم، والرأي العامّ العالمي. هو الدبلوماسي الذي نجح في مزاوجة عمله مع وعي ثوري السفير حسام زملط.
نجح زملط في إقناع التسوويّين بأهميّة العمل الدبلوماسي، وخاطب الثوريين بالحقّ الفلسطيني الذي لن تسقطه أيّ اتفاقية أو تسوية. هو ابن الثورة الفلسطينية البارّ المحبّ للقائد الشهيد أبي عمّار، وابن الكفاح المسلّح. لكنّه كفاح نقله إلى عالم الدبلوماسية، من دون سلاح، فكان أمضى وأشدّ تأثيراً. لمع اسمه حين كان سفيراً في الولايات المتحدة الأميركية (2017 – 2018)، من خلال أمرين:
– أوّلاً براعته في مخاطبة الفلسطينيين بلغتهم، لغته. ومخاطبة الآخرين أيضاً بلغتهم، اللغة السائدة، الإنكليزية.
– ثانياً اتّهامه من قبل دوائر ضيّقة تحيط بالرئيس محمود عباس “أبي مازن”، بأنه يُعدّ نفسه لوراثته، وأنّ الأميركيين معه في ما يُعدّ نفسه له.
غالباً صوت المعركة الحقيقية يكون خفيضاً، لكنّه قويّ، لا يحطّم مباني وبيوتاً ومشافي، ولا يقتل نساءً أو أطفالاً أو أبرياء مدنيين
لكنّه لم يفصح عن هذا الأمر ولم يخُض فيه. لم ترسم خطواته اتّهامات الآخرين له. تركهم يغرقون في دوائرهم الضيّقة، وخرج شاهراً الحقّ الفلسطيني. فكان أن أتى إلينا، فاضطرّ العالم إلى أن يذهب إليه. هم يحملون همّ الرئاسة والوراثة والسلطة. هو يحمل الحقّ الفلسطيني ويرفع قضية بلاده عالياً.
وفي حين عُرف على نطاق واسه بتصريحاته التي تتصدّى لتحيّز الإعلام الغربي لإسرائيل، إلا أنّه عُرِف قبلها بالكثير من المواقف التي لم تجد طريقاً إلى الإعلام لكنّها وجدت طريقاً إلى العقاب. إذ طُرد عام 2018، وأُلغيت إقامته هو وأسرته في واشنطن بعدما استنكر قرار الإدارة الأميركية إغلاق مكتب البعثة الفلسطينية فيها، وذلك لاتّهامها القيادة الفلسطينية برفض التحدّث مع إدارة الرئيس الأميركي في وقتها دونالد ترامب.
مأساة شعب… والمعركة الحقيقيّة
هي سيرة مقتضبة كان يمكن تلافي الخوض فيها والاكتفاء بما قاله السفير زملط في تصريحاته الأخيرة منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى”. فتصريحاته لا تخرج إلا من فلسطيني صميم يعرف معاناة شعبه وأهله جيّداً.
هي معاناة عاشها وذاق مراراتها، ولذا هو خير من يصدح بالحقّ الفلسطيني. وزملط أبرع من يقود المعركة الحقيقية وفي مكانها الحقيقي: المعركة مع الإعلام الغربي، والرأي العامّ الغربي، الذي بعد مرور 75 سنةً على نكبة فلسطين، لم نُحسن التوجّه إليه، ولا مخاطبته، وما يزال إلى الآن يكيل بمكيالين، ولا يسمع إلا ما تُسمعه إيّاه إسرائيل والناطقون باسمها.
المقابلات التي خاض غمارها زملط، في الأيام الأخيرة، هي الميدان الحقيقي للمعركة التي لا بدّ أن ننتصر فيها ليصير حقّ الفلسطينيين في فلسطين أقرب إلى الترجمة على التراب الفلسطيني. وهي بوصلة تدلّنا وسط هذا الدمار الرهيب والموت الذي يعمّ فلسطين والشرق عموماً، من دون راءٍ أو سامعٍ، ومن دون رفض أو استنكار أو شجب حتى، على المكان الأنسب والأفعل لخوض معركة الدفاع عن حقّنا في فلسطين.
على الرغم من أهمية ما يجري على أرض فلسطين، وفي قطاع غزّة تحديداً، من معارك بطولية هيهات تسقط من ذاكرة التاريخ، إلا أنّ المعركة الحقيقية يخوضها السفير الفلسطيني حسام زملط هناك، في لندن، مهد وعد بلفور والمأساة الفلسطينية.
هل تسمعون صوت القضيّة؟
“لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. حسناً لن أجادل في هذا. لن أسأل عن صوت المعركة وهل هو محصور فقط في أصوات الصواريخ والطائرات والدبّابات والأسلحة الخفيفة وصافرات الإنذار واستغاثات الجرحى والمكلومين.
إقرأ أيضاً: البعد الدينيّ في الحرب على غزّة
سأتحدّث فحسب عن صوت على هامش الأصوات تلك كلّها. صوت يعلو فوقها وفوق صوت المعركة تلك. بل أكثر من ذلك، سأقول إنّه صوت المعركة الحقيقية. والمعركة الحقيقية أكبر من آلات القتل الحادّة تلك وأصواتها، وأوسع وأشمل.
غالباً صوت المعركة الحقيقية يكون خفيضاً، لكنّه قويّ، لا يحطّم مباني وبيوتاً ومشافي، ولا يقتل نساءً أو أطفالاً أو أبرياء مدنيين. هو صوت يخرق جدراناً في العقل، ويُزيل غشاوةً عن العيون، وينفض غباراً عن الحقائق يكاد يمحوها.
صوت لا يقتل أناساً مقهورين ومضطهَدين، ولا يقضي على شعب أعزل، بل يقتل الأكاذيب والتضليل والتعمية، ويقضي عليها قضاءً لا قيامة لها بعده. هو صوت السفير الفلسطيني في لندن، ومعركة الحقّ الفلسطيني الحقيقية.