مئويّة الأستاذ… حين قام بايدن بزيارة هيكل

مدة القراءة 7 د


في عام 1923 ولد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، وفي عام 2023 احتفلت القاهرة بمرور 100 عام على ميلاد “الأستاذ”.
في متحف الحضارة بالقاهرة أقيم تكريم مهيب حضره الرئيس المصري السابق عدلي منصور، ونخبة من الشخصيات العامّة المصرية والبريطانية.

وثيقة عاطفيّة
في احتفالية المئوية ظهرت السيّدة هدايت تيمور زوجة الأستاذ هيكل منذ رآها عام 1955 حتى رحيله عام 2016. وقد روَت للحضور وقائع “الحبّ الكبير” الذي امتدّ 61 عاماً.
قالت لي الإعلامية المعروفة منى الشاذلي، التي التقيتها في أثناء حضورنا منتدى دبي للإعلام: لقد نجحتُ في استضافة السيّدة هدايت تيمور في برنامجي، وهي المرّة الأولى في حياتها التي تدخل فيها استديو للحديث إلى الجمهور. لقد أُعجبت بحجم الحبّ الذي عاشه الأستاذ هيكل مع السيّدة هدايت، وقد ذهِلتُ حين قرأت خطاباً كتبه لها قبل 20 عاماً من رحيله، وهو الخطاب الذي أوصاها ألّا تفتحه إلّا بعد رحيله.
بالنسبة لي كان ذلك جديداً، وكانت السطور التي ذكرتها الأستاذة منى الشاذلي من خطاب “الأستاذ” بمنزلة نصّ أدبي رفيع، سيكون جزءاً من كلاسيكيات الحبّ والوفاء في عصرنا، وفي العصور التالية. وإذا كان الأستاذ هيكل قد احتفى على مدى حياته بجمع الوثائق، فإنّ أجمل وثيقة تركها هي تلك التي كتبها إلى زوجته من العالم الآخر.
تقول السيّدة هدايت الحاصلة على ماجستير الآثار الإسلامية: “كلّ ما فعلته مع محمّد هو أنّني عملت دائماً على راحته”. ومن المثير أنّ زوجة أشهر كاتب في العالم العربي لم تكن لها صورة واحدة في الصحافة، ولم يكن يعرف اسمها إلّا عدد قليل من المقرّبين، ولم يسُد اسمها إلّا بعد رحيله.
كان الرئيس جمال عبدالناصر ومؤسّس دار أخبار اليوم الأستاذ مصطفى أمين هما من وقّعا على عقد زواج الأستاذ هيكل والسيّدة هدايت، وفي منزلها التقى العشرات من نجوم العالم العربي وقادة الفكر والسياسة، ومع ذلك لم ترغب “السيّدة الأولى” في الصحافة العربية أن تقوم بدور خارج الأستاذ، وهي اليوم تواصل الدور رئيسةً لجائزة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية.

التقيتُ الأستاذ محمد حسنين هيكل مرّات عديدة، واحدة منها كانت في حفل إفطار صحيفة المصري اليوم، وقد روى لي وقائع لقائه مع الرئيس جون كينيدي، ولمّا نشرت ما دار بيننا، ورؤيتي لما قال، شنّت صحيفة العربي الناصرية هجوماً استمرّ عدّة أعداد

سبعة رؤساء وملك
عاصر الأستاذ محمد حسنين هيكل الملك فاروق، وحصل على جائزة الملك فاروق للصحافة، ثمّ التقى جميع رؤساء مصر بعد عام 1952. فقد التقى الرئيس محمد نجيب، وكان الأقرب للرئيس عبد الناصر ثمّ السادات، وبعد الصدام مع السادات، حافظ على مسافة وسطى من الرئيس مبارك.. ولمّا وقعت أحداث ثورة 2011 زار رئيس المجلس العسكري المشير محمد حسين طنطاوي، ثمّ الرئيس محمد مرسي، وبعد ثورة 2013 التقى الرئيس عدلي منصور، وقام بأكثر من زيارة للرئيس السيسي. وعبْر رحلته الثريّة، كان رئيساً لمؤسّسة الأهرام، ووزيراً للإعلام، ووزيراً للخارجية بالإنابة.

هيكل.. شارل ديغول
التقى الأستاذ هيكل عدداً من قادة العالم. تحدّث عن أبرزهم في كتابيْن رائعين “أحاديث في آسيا” و”زيارة جديدة للتاريخ”. وقد اشتهر “الأستاذ” باستعراضه المستمرّ لمن التقى، وذلك حتى يضع مسافة بينه وبين من يقرأ أو يشاهد. ثمّ إنّه كان رئيساً على كبار أدباء مصر ومفكّريها، من نجيب محفوظ إلى توفيق الحكيم إلى يوسف إدريس، وكان مكتبه في صحيفة الأهرام مقصداً لكلّ من يريد أن يفهم ما يحدث في مصر وما يدور في الشرق الأوسط.
كثيراً ما تحدّث الأستاذ هيكل عن لقائه بالرئيس الفرنسي شارل ديغول، وتعلُّمه من ديغول أهمية النظر إلى الخريطة عند الحديث في السياسة. يقول هيكل: قال لي شارل ديغول عقب نكسة 1967: “انظر إلى هذه الخريطة مسيو هيكل. هذه هي مساحة العالم العربي، وهذه هي مساحة إسرائيل. الهزيمة التي لحقت بكم هي هزيمة مؤقّتة بحكم الجغرافيا، وأيّ شخص عندكم إذا ما نظر إلى الخريطة، فلا بدّ أنّه سيشعر بالثقة بالمستقبل”.

جو بايدن يزور هيكل
قبل أن يصبح فرانسوا ميتران رئيساً لفرنسا زار مؤسّسة الأهرام الصحافية والتقى الأستاذ هيكل في مكتبه. كان ميتران آنذاك رئيساً للحزب الاشتراكي في فرنسا، وقد وقّع كتاباً أهداه له واستمرّت الصلة بينهما لسنوات تالية.
قصة زيارة ميتران لهيكل في “الأهرام” معروفة، لكنّ ما لم يكن معروفاً حتى مئوية هيكل هو زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للأستاذ هيكل في مكتبه بالأهرام قبل خمسين عاماً من الآن.
يروي المؤرّخ الإسرائيلي يغال كيبنيس في كتابه “1973.. الطريق إلى الحرب” وقائع تلك الزيارة المثيرة: كان السيناتور الشابّ جو بايدن في الثلاثين من عمره، وقد قام في عام 1973، وقبل شهر وأسبوع من الحرب، بزيارة مصر وإسرائيل، في أوّل زيارة له للشرق الأوسط.
كان الرئيس السادات وقتئذ في زيارة للسعودية وقطر، لإبلاغهما بالاستعداد للحرب، وترتيب إمكانية استخدام سلاح النفط. لم يلتقِ بايدن السادات، لكنّه التقى عدداً من المقرّبين، وكان أبرزهم محمد حسنين هيكل.
زار بايدن مؤسّسة الأهرام والتقى هيكل في مكتبه بالطابق الرابع، وسأله عن احتمالات الحرب مع إسرائيل، وقد قال له هيكل: الحرب ليست واردة، فالتفوّق العسكري الإسرائيلي كبير، ومن غير الممكن أن تدخل مصر أيّ حرب في الوقت القريب.

حسب الكاتب الإسرائيلي ربّما كانت إجابة هيكل جزءاً من خطّة الخداع المصرية، ذلك أنّ جميع من التقوا بايدن في مصر كرّروا الكلام نفسه، وقالوا: لا حرب مقبلة، والحلّ حين يشاء الله. حسب وثيقة للسفير الإسرائيلي في واشنطن بشأن زيارة بايدن للقاهرة، فإنّ بايدن انحاز لرؤية المصريين بأنّه لا يمكن أن تقوم الحرب.
يعلّق الكاتب الإسرائيلي: من الصعب معرفة إلى أيّ مدى ساهم كلام بايدن في خطة الخداع المصرية.

وقفة مع الأستاذ
التقيتُ الأستاذ محمد حسنين هيكل مرّات عديدة، واحدة منها كانت في حفل إفطار صحيفة المصري اليوم، وقد روى لي وقائع لقائه مع الرئيس جون كينيدي، ولمّا نشرت ما دار بيننا، ورؤيتي لما قال، شنّت صحيفة العربي الناصرية هجوماً استمرّ عدّة أعداد.
كتبتُ لاحقاً سلسلة مقالات بعنوان “هيكل.. وقفة مع الأستاذ”، وهي المقالات التي أوقفتُها، بعد طلب المهندس صلاح دياب صاحب “المصري اليوم”، بناءً على طلب “الأستاذ”. لمّا وصلت إلى نشر نصف هذه المقالات التقيتُ الأستاذ هيكل، وكان ذلك في حفل توقيع كتاب رئيس وزراء مصر الأسبق كمال الجنزوري، وأشهد له أنّه كان ودوداً وكريماً.. بلا حدود.
وقبلها بقليل كنت قد التقيته مع الدكتور أحمد زويل والسيّد عمرو موسى والأستاذ الأخضر الإبراهيمي، في فندق فورسيزونز القاهرة، بدعوة من المهندس إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار الشروق. وفي هذا اللقاء انكسر قليلٌ من جبل الجليد.. بين هيكل والدكتور زويل.

إقرأ أيضاً: أطلانطس الليبيّة.. القذّافي والثورة يغرقان معاً

الصحافيّ.. والسياسيّ
لقد تأمّلت طويلاً مشروع الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، وكنت ألجأ إلى كتاباته ملتمساً الرأي كلّما ضاقت المعلومة أو متقصّياً المعلومة حين يختلط الرأي، فوجدته في حالات عديدة شاهداً حين يجب أن يكون قاضياً، وقاضياً حين يجب أن يكون شاهداً، وغائباً حين تتعقّد القضايا وترتبك الأحكام وتتبدّل مواقع الادّعاء والاتّهام!
في تقديري أنّنا إزاء هيكليْن اثنين لا هيكل واحد: هيكل السياسي الذي لا اتفاق عليه، وهيكل الصحافي الذي لا اختلاف عليه.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…