الإعلام في منتداه: هاجس “الذكاء” واستحسان “التفاهة”

مدة القراءة 5 د


في منتدى الإعلام العربي في نسخته الأخيرة الـ 21 التي انعقدت في 26 و27 أيلول الماضي في دبي، بدا أنّ الصحافة والإعلام في متاهة متعدّدة الأبعاد والمستويات، وأنّ المهنة باتت، كما حال الفضاء الافتراضي، متفلّتة من أيّ قيود وضوابط وقواعد، ومتّجهة صوب اعتبارها ظاهرة عصيّة على الرصد والفهم والاستشراف.
لا شكّ في عراقة المنتدى الذي تتولّى قيادتَه السيّدةُ منى غانم المرّي، نائب الرئيس والعضو المنتدب لمجلس دبي للإعلام، ورئيسة نادي دبي للصحافة. ينهل المنتدى مكانته وصيته البارز من الرعاية الدائمة للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء وحاكم دبي. غير أنّ حُسنَ التنظيم والإعداد المدهش والتوق الدؤوب إلى التحديث والخروج بأرقى النتائج، ربّما قدّمت، عن غير قصد، عرضاً شفّافاً كشف أزمة الإعلام وعوراته من دون ظهور أيّ أفق لمآلات واضحة المعالم.
لئن راج في السنوات الأخيرة جدل مضجِر بشأن علاقة وتنافس الإعلام التقليدي والإعلام الاجتماعي، وراحت بعض المخيّلات تتنبّأ بانتهاء عهد “الورقي” وصولاً إلى موت الصحافة، فإنّ “الترند” الذي ظهر في المنتدى تناول عصر الذكاء الصناعي بصفته “ليس إلّا” خطراً، وخطراً فقط، على الإعلام ومهنة الإعلام بما يهوّله من “اغتيال” محتمل للإنسان في هذا القطاع.

ما الفرق بين الإعلامي والصحافي؟
ليس الحدث مؤتمراً علمياً أكاديمياً، ولا يزعم ذلك. هو “منتدى” حاضن لأهل المهنة والمهتمّين بعالم الإعلام والإعلاميين. وعلى هذا لا يمكن اعتبار الندوات التي تحتضنها فعّاليات الحدث إلا شكلاً من أشكال “الدردشة” بشأن تجارب ووجهات نظر وآراء. ولا يدّعي المنتدى الخروج بأوراق بحثيّة، بل يتطوّع بجدارة لتقديم فضاء يتحرّك داخله المتحدّثون والمنصتون لهم وتنشط حولهم حلقات التعارف وصناعة شبكات التواصل بين الحضور.

ليس الحدث مؤتمراً علمياً أكاديمياً، ولا يزعم ذلك. هو “منتدى” حاضن لأهل المهنة والمهتمّين بعالم الإعلام والإعلاميين

ولطالما جرى نقاش بشأن ما إذا كان الإعلام يعني الصحافة وما إذا كان يجوز الفصل بين الإعلامي والصحافي. وقد سُجّلت في بداية ظهور التلفزيون فوقيّة مهنيّة مارسها صحافيّو الإعلام المكتوب على العاملين في الإعلام المرئي والمسموع. فلم يعتبروهم زملاء ومنعوا عنهم نقاباتهم. ومع تطوّر الإعلام الفضائي وانخراط صحافيّي “المكتوب” بـ “الفضائي” ورواج البرامج الحوارية والإخبارية التي نقلت “المذيع” من وظيفة التلاوة إلى مهامّ النقاش، أُعيدت ترقية “الفضائيين” على الرغم من أنّ التقويم بقي متفرّقاً يخضع للكفاءة والتميّز والمواهب التي لا يمتلكها الجميع.
قد لا أستطيع أن أكون دقيقاً في تقديم مسح يطال نسخات المنتدى السابقة، ذلك أنّ حضوري هذا الحدث الإعلامي الشهير هو الأوّل. لكنّ المناسبة في بُعدها الناجح تشبه النجاحات التي حقّقتها دولة الإمارات العربية والنموذج اللافت لدبي وتجربتها الرائدة في قطاعات وميادين مختلفة. غير أنّ الجانب الاحتفالي قد يكون وراء الدفع بظواهر الإعلام داخل المنتدى من دون أيّ حدود بين خطوطها وتنوّعاتها. تقاطع المكتوب بالإلكتروني والفضائي، وتناوب على التحدّث من هو جديد في طرحه ولافت في مقاربته ومن هو تقليدي رتيب تقادمت خطبه.
لكنّ الخلطة أيضاً ضمّت صنّاع الدراما من ممثّلين ومخرجين ومنتجين، عرب وأجانب (أتراك خصوصاً)، على نحو أقحم “النجوم” في فضاء يُفترض أنّه لحرفيّي الإعلام بواجهاته المختلفة. وبدا أنّ الإعلام المنكبّ على تغطية أخبار منتداه انجذب نحو “النجوم” في تصريحاتهم وسجالاتهم وخلافاتهم. وبدا أيضاً أنّ لـ “الترند” مكاناً ومكانة داخل مساحات المنتدى على الرغم من أنّ “قبيلة” المؤثّرين على وسائط الإعلام الاجتماعي لم تكن حاضرة بشكل كبير، لحسن الحظ، وربّما قد تحتضنهم نسخات مقبلة.

نيشان وياسمين: خبر غير سعيد
قد لا يكون خبراً سعيداً لمنظّمي المنتدى أن يضجّ الإعلام كثيراً وبمبالغة مفرطة بـ”الأزمة” التي نشبت بين الإعلامي اللبناني نيشان وزميلته الإعلامية المصرية ياسمين عزّ. اندلع “الترند” وتوسّعت نيرانه انطلاقاً من لا شيء. تخلّفت الإعلامية من مصر عن حضور جلسة كان سيقدّمها الإعلامي من لبنان، فافتعل الأخير حدثاً، وهو ليس بحدث، فهي ليست ضيفته بل ضيفة المنتدى، ولا حجّة لإطلاق مواقف لا تحترم أبجديّات قواعد الضيافة. فأن يحضر هذا ويغيب ذاك ويتخلّف ذلك لهو أمر من عاديّات الأمور التي لا تُحدِث زوابع وعواصف وأعاصير ولا تستحقّ كلّ هذه القرقعة.
مع ذلك تشكّل الأزمة على تفاهتها وشطَطها أيضاً جزءاً من عالم إعلام اليوم الذي تغيب فيه الضوابط والمحدّدات والمعايير. ويُسجَّل للمنتدى أنّه ليس جهة تحاكِم هذا الإعلام وظواهره بل تعرضه وتحتضنه وتتيح له منابر التعبير الحرّ عن سرّائه وضرّائه. ولئن بات “الترند” من حيث هو ضرورة وحرفة يحتاج إلى النهل من “نظام التفاهة” وفق المؤلّف الرائع للفيلسوف الكندي آلان دونو، فإنّ مكافحة تقليعاته تستدعي فرض معايير تصويب من قبل كبار أهل الاختصاص تسلّط الضوء على النوعيّ واللافت، وما أكثرهما، في كلّ قطاعات الإعلام في نسخاته جميعاً.

إقرأ أيضاً: فرنسا تنسحب من النيجر: صفعة واشنطن!

تؤكّد المرّي أنّ “إعلام اليوم لا يشبه الإعلام الذي عرفناه قبل سنوات”، وتخلص إلى أنّ “المسؤولية مشتركة وتقع على عاتق الجميع لتحقيق التطوّر المطلوب”. ويحقّ للمنتدى هنا أن نعترف له بريادته وسعة صدره في احتضان إعلام العرب وإعلاميّيه. وربّما بسبب هذه الريادة قد يكون مطلوباً (وهذا يعود إلى توجّهات منتديات مقبلة) الانتقال من الدور الحاضن إلى وظيفة الرعاية بما تعنيه الكلمة من حرص على حماية هذا الإعلام من بلادةِ التساهل مع تجاوزاته والتسامح مع نزقه ونزوعه نحو الفوضى .. وبعض من التفاهة.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…