لم يخطر للصديقة وهي توْدِع هاتفها المحمول للصيانة، أنّ خطأً سيمحو من جهازها ذاكرة ستّ سنوات من الصور والفيديوهات والرسائل النصّية والصوتية. ينطوي الأمر على مأساة معاصرة، بالمعنى الحرفي للكلمة، تختصر النقيضين: الصلابة والهشاشة.
من ناحية، تتيح لنا التكنولوجيا الرقمية تسجيل حياتنا بتفاصيل غير مسبوقة، عبر الصور ومقاطع الفيديو ومنشورات ورسائل وتفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي. تشكّل هذه جميعها بنوكاً خارجية صلبة توثّق تجاربنا المادّية والحسّية بدقّة. من ناحية أخرى، تغلّف الهشاشة هذا الأرشيف الرقمي المعرّض للفقدان بسبب أخطاء تقنية، أو تلف البيانات، أو حتى إغلاق المنصّات والحسابات عليها. وتزداد الهشاشة، في ضوء فائض اتّكالنا على التكنولوجيا لرعاية ذكرياتنا، من دون أن ننتبه إلى أنّها باتت تعيق قدراتنا الذهنية على التذكّر بشكل تجريدي ومن دون وسيط تكنولوجي. في الواقع تفقد أدمغتنا، التي اعتادت على الواقعية المفرطة للذاكرة الرقمية، القدرة على إعادة بناء الذكريات بطريقة أكثر تجريداً وأقلّ دقّة، وعبر طبقات عاطفية ونفسية معقّدة.
إنّها محنة هشاشة الوجود في عالم تهيمن عليه التكنولوجيا. فالأخيرة تتدخّل بشكل حاسم في صناعة الذاكرة التي بدورها تصنع الكثير من معاني الوجود الإنساني بل الهويّة البشرية نفسها. أي أنّ التكنولوجيا، تتدخّل في صناعة هويّتنا في نهاية المطاف
قبل ظهور الهواتف الذكية والتخزين السحابيّ، كانت عملية التذكّر عبارة عن آليّة بشرية عضوية يشوبها الكثير من النقصان. وكانت الذكريات تتشكّل بفعل حزمة معقّدة من المشاعر والانحيازات الذهنية، وتتّكل، بفعل مرور الوقت، على رواية القصص والترسّبات الجسدية والحسّية للتجارب المُعاد تذكّرها. ولأنّها كذلك، تظلّ الذكريات المُعاد بناؤها من دون وسيط رقمي، عرضة لتشوّهات العقل البشري، وتفاعلات الصدى العاطفي للذكرى، وهو ما تفتقر إليه الذكريات الرقمية الدقيقة والفائقة الواقعية.
إنّها إذن، محنة هشاشة الوجود في عالم تهيمن عليه التكنولوجيا. فالأخيرة تتدخّل بشكل حاسم في صناعة الذاكرة التي بدورها تصنع الكثير من معاني الوجود الإنساني بل الهويّة البشرية نفسها. أي أنّ التكنولوجيا، تتدخّل في صناعة هويّتنا في نهاية المطاف.
الذاكرة كشرطٍ بشريّ فوق التكنولوجيا؟
كم كان المخرج ريدلي سكوت عبقرياً في فيلمه “Blade Runner”، المقتبس عن رواية لفيليب ديك، حين ظهّر لنا أنّ الفارق بين البشر، والكائنات المستنسَخة على هيئات البشر، هو الذاكرة، والذاكرة فقط. في الفيلم الصادر عام 1982، ثمّ في جزئه الثاني الصادر عام 2017 بتوقيع المخرج دينيس فيلنوف بعنوان “Blade Runner 2049″، تُعرض الذاكرة بوصفها الشرط البشري الأوّل. فما إن يتمّ تخصيب وعي الكائنات المستنسَخة بالذكريات، حتى تبدأ باكتساب بشريّتها وتشرع في سلوك بشري يتّسم بالصراع مع العواطف والقلق والأسئلة الوجودية.
الذاكرة بهذا المعنى، ليست مجرّد مستودع سلبيّ للنشاط الإنساني، بل هي بنيان متكامل يشكّل تصوّراتنا وقراراتنا وتفاعلاتنا، ويُعرِّف الهويّة الإنسانية برمّتها. فكيف لهذا العنصر التكويني للهويّة أن يكون، بفعل التكنولوجيا، بهذه الهشاشة؟
في الناحية الأخرى للمحنة، توفّر الذكريات الرقمية ديمومة صارمة وحدّاً قاسياً من الموضوعية لا توفّره الذكريات المُعاد بناؤها بفعل التذكّر البشري وحده. تلتقط الصورة أو الفيديو أو المحادثة المحفوظة، اللحظة كما حدثت تماماً، خالية من الزخارف والإغفالات والإسقاطات التي تميّز الذاكرة البشرية. يمكن للرسائل الصوتية مثلاً أن تحافظ على الرنّة الدقيقة لصوت شخص ما، وتكون بمنزلة سجلّ ثابت للحظة معيّنة من الزمن. فأيّ جحيم هذا الذي لا يتيح فرصة للسهو والنسيان؟
لعنة فونيس وذاكرته
يقودني هذا السؤال إلى التأمّلات الفلسفية لخورخي بورخيس في قصّته القصيرة “فونيس القويّ الذاكرة”. تدور الأحداث حول رجل مصاب بذاكرة حادّة تبقيه أسير متاهة التفاصيل التي يعايشها كلّ يوم. كثيرون منّا، مصابون بلعنة فونيس، على نحو يجعلنا أسرى لماضينا الرقمي، وينزع عنّا القدرة على المضيّ قدماً بلا أثقاله.
وقد تطوّر هذا الهاجس لأن يصبح معياراً حقوقياً قانونياً عبر ما يسمّى “الحقّ في أن أُنسى”، والذي اعتُمد في الكثير من الدول، وبينها الاتحاد الأوروبي، من ضمن القوانين الناظمة لحماية البيانات العامّة.
يشكّل التوتّر الكامن بين التذكّر والنسيان، أساساً لمحنة معاصرة تتجاوز الأبعاد الثقافية والسياسية والفردية للذاكرة، لتطال معنى الوجود نفسه وسياقات تشكّله وتشكّل السرديات المتعلّقة به ماضياً وحاضراً ومستقبلاً
“الحقّ في النسيان”، كما شاعت التسمية، هو الحقّ الفردي بطلب إزالة المعلومات الخاصة عن شخص ما، من خوادم الشركات والمنصّات الرقمية، بغية حماية حقّ الأفراد في “المضيّ بتطوير حياتهم بطريقة مستقلّة، ومن دون أن يتعرّضوا للوصم بشكل دائم أو دوري نتيجة لعمل محدّد قاموا به في الماضي”.
ولئن لم يكن هذا الحقّ مطلقاً، ويستحضر ضرورة الموازنة بينه وبين الحقوق الأساسية الأخرى، مثل حرّية التعبير وحرّية الجمهور، والحقّ في المعرفة، فإنّ “الحقّ في النسيان” يضيف تعقيداً إضافياً لمسألة الذاكرة والنسيان في الزمن التكنولوجي المعاصر.
لا يخصّ هذا الأمر الأفراد وحدهم. فعلى نحو متزايد، تتشكّل ذاكرتنا الجماعية للأحداث، من خلال مقاطع الفيديو الواسعة الانتشار ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، التي تقدّم أرشيفاً مفصّلاً ومتاحاً للعموم. بيد أنّ ذلك يجعلنا أيضاً أكثر عرضة للتلاعب من خلال التزييف العميق، ومقاطع الفيديو المعدّلة، وغيرها من أشكال الخداع الرقمي، وهو ما يحاصر بالشكوك، مصداقية ذاكرتنا الرقمية الجماعية، في اللحظة نفسها التي أصبحت فيها هذه الذاكرة الرقمية الجزء الأهمّ من تراثنا الثقافي.
ينحو هذا الأرشيف الرقمي، إلى تأبيد الذاكرة، من دون الأخذ بعين الاعتبار تطوّر أو انتكاس الطرف المعنيّ بالذكرى، عاطفياً وشعورياً وحسّياً. إنّها ببساطة ديكتاتورية الماضي المحفوظ بعناية شديدة، والمنزوعة عنه في الغالب السياقات والفروق الدقيقة التي شكّلت تلك اللحظة أو الذكرى.
والحال، ليس غريباً في “ديكتاتورية الماضي”، أن تكتسب الذكريات المؤرشفة وزناً أكبر ممّا تستحقّه، يطغى على الحاضر ويؤثّر حتى على التفاعلات المستقبلية، لأنّ ما يضعنا بإزائه في غالب الأحيان هو روايات تمتلك مظهراً شديد الواقعية، على الرغم ممّا تكتنفه من تشوّه ونقصان. أسّس هذا التطوّر المهمّ في مفهوم وشكل الذاكرة في العصر الرقمي لِما يسمّى اليوم “ثقافة الإلغاء” حيث يمكن البحث عن الأفعال أو التصريحات الماضية والحكم عليها من دون مراعاة النموّ الشخصي أو الظروف المتغيّرة للأفراد والجماعات.
الحقّ البشري في النسيان
يظهر هذا جليّاً، في خدمة “الذكريات” التي توفّرها منصّة “فيسبوك” للمستخدمين. كلّ صباح تقترح خوارزميّات “فيسبوك”، على المستخدم حزمة من الذكريات التي تفترض أنّها تعنيه. تفترض خوارزميات المنصّة، والتي تعمل كمستودع رقمي لتجاربنا الماضية، أنّ فعل النشر من قبل المستخدم يعادل الرغبة في التذكّر الدائم. فهي لا تقيم أيّ وزن لتغيُّر ظروف الحياة، أو للفروق العاطفية والسياقات التي تفصل بين لحظة ما حصل وبين لحظة استعادته لاحقاً كاقتراح ذكرى.
هنا أيضاً، تتجاهل هذه الميزة، النسيان كحقّ بشري ومعطى ضروري لرفاهيّتنا العقلية، تماماً كما هو حال التذكّر. فالتأبيد الدقيق والموثّق للماضي، من خلال إعادة التذكير الدائم بتجارب فردية أو جماعية، يصير أشبه بمواجهة قسرية مع هذا الماضي، من دون أيّ اعتبار لما إذا كانت تلك المواجهة مرحّباً بها أو مفيدة.
إقرأ أيضاً: لعبة التوازن بين النموّ وزيادة السكّان
حول هذه الازدواجية بين الذاكرة والنسيان، يبني ميلان كونديرا روايته الرائعة “كتاب الضحك والنسيان”، موغلاً في جدليّتها المعقّدة والأدوار التي تلعبها في المجالين الشخصي والسياسي. ولئن كان النسيان، في رواية كونديرا، يحضر كشكل من أشكال التحرّر من الماضي، ومن الروايات القمعية التي تفرضها الأنظمة الشمولية، أو يفرضها الشخص نفسه على ذاته المهدّدة، فإنّه يحضر أيضاً كممارسة قمعية متوحّشة بيد السلطة. يغازل كونديرا النسيان كفعل مقاومة واعٍ يسعى إلى فكّ الارتباط بالماضي، من أجل استعادة حاضر الإنسان ومستقبله. ويحذّر في الوقت نفسه من النسيان بوصفه أكثر أدوات القمع السياسي توحّشاً، عبر امتلاك السلطة قوّة إعادة كتابة التاريخ ومحو الأفراد والسرديّات غير المناسبة لروايتها.
يشكّل هذا التوتّر الكامن بين التذكّر والنسيان، أساساً لمحنة معاصرة تتجاوز الأبعاد الثقافية والسياسية والفردية للذاكرة، لتطال معنى الوجود نفسه وسياقات تشكّله وتشكّل السرديات المتعلّقة به ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@