يمكن القول إنّ الصراعات التي عاشتها القوى السياسية في المشهد العراقي، خاصة داخل المكوّن الشيعي، وتحديداً ما تعرّض له “الإطار التنسيقي” الذي يُعتبر “البيت” الذي يضمّ ممثّلين عن كلّ الأحزاب والفصائل والميليشيات والقيادات الشيعية، أدّت إلى إضعافه حتى بات مهدّداً بالانهيار والتشتّت، وهو ما قد يُدخل العراق في حرب أهلية وبحر من الدم بين أبناء هذا المكوّن قد ينتهيان بإعلان نهاية التجربة الشيعية في السلطة والحكم.
دفعت هذه المخاوف أوّلاً الحليف الإيراني إلى بذل كلّ ما في جعبته من أجل إعادة ترميم البيت الشيعي من بوّابة “الإطار التنسيقي”، وثانياً من بوابة القوى والفصائل، لدفعها إلى التخلّي النسبي والعلني عن معاركها من أجل التقاسم والمحاصصة، والتركيز على دعم برنامج حكومي يعمل على رفع الحرمان والنهوض بالواقع العراقي الاقتصادي والحياتي والمعيشي والمالي والتنموي، وعدم التدخّل أو عرقلة العمل الحكومي في إدارة الدولة والمؤسّسات.
أسهمت تحالفات طالباني مع بغداد ومن ورائها طهران في تعميق الخلافات مع إربيل، خاصة بعد الدور الواضح الذي لعبته الأخيرة في دعم الجماعات الانفصالية والأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة والسماح لها بإقامة معسكرات واستخدام أراضي الإقليم لاستهداف الداخل الإيراني
على خطّ آخر، وبعدما استجمعت هذه القوى أنفاسها وعبرت من أزمة تشكيل الحكومة وفرض إرادتها على كلّ المكوّنات الأخرى وتمرير الرؤية والمشروع اللذين تريدهما في السلطة، انتقلت إلى مرحلة محاسبة كلّ الأطراف التي وضعتها أمام تحدّيات وجودية وأخرجتها من دائرة القرار عندما أصرّت هذه الأطراف على مشروع حكومة الأغلبية ورفضت مشاركة هذه الفصائل في السلطة. من هنا كان لا بدّ لقوى “الإطار التنسيقي” وقيادته إعادة النظر في ما تعتبره “الابتزاز الكردي” وإنهاء الدور الذي يلعبه هذا المكوّن في التوازنات السياسية والحكومية وحتى الاقتصادية، مع ما يستدعيه ذلك من تقليمٍ لأظافره.
حكاية “النهاية”
بدأ المسار الممهِّد لتقليم أظافر القيادة البارزانية وقوّة إربيل، عندما أسقطت هيئة النزاهة أهليّة ترشيح وزير المالية والخارجية الأسبق هوشيار زيباري لرئاسة الجمهورية بتهمة الفساد، وللمرّة الأولى لم تأخذ بعين الاعتبار الرابطة العائلية التي تربطه بابن أخته مسعود بارزاني في حساب أو خلفية القرار، وهو الأمر الذي فُهم منه أنّه انتصار لمرشّح حزب الاتحاد الوطني باعتباره استحقاقاً لهذا الحزب في إطار معادلة التقاسم التي توافق عليها أقطاب المكوّن الكردي. ثمّ جاء قرار المحكمة الاتحادية بإلغاء قانون النفط والغاز في الإقليم الذي يعني سحب ورقة القوّة المالية التي تقوم عليها زعامة بارزاني وسيطرته وإمساكه بقرار الإقليم السياسي والاقتصادي والمالي، وتضعه في مستوى الخصم مع الحكومة الاتحادية وبغداد.
لا شكّ أنّ قيادة الإقليم البارزانية قد قرأت بتمعّن هذه الرسائل القاسية والتقطت أبعادها وأهدافها، فاندفعت إلى إبرام تسوية تشكيل الحكومة والتخلّي عن تمسّكها بمشروع التحالف مع الصدر والحلبوسي وحكومة الأغلبية النيابية. إلا أنّ بارزاني حاول عدم الاستسلام لمطالب “الإطار التنسيقي” وعمل على وضع شروط للدخول في هذا التحالف من بينها الحصول على وعود بإعادة طرح قانون جديد للنفط والغاز وفتح الطريق أمام عودة الحزب الديمقراطي إلى محافظة كركوك واستعادة مكاتبه ومقرّاته التي كانت له قبل سيطرة قوات الحكومة الاتحادية عليها عام 2017، مقابل موافقته على تسليم كلّ عائدات بيع النفط التي حصلت وتحصل عليها شركة نفط الشمال إلى المالية الاتحادية، وتسوية ديون الإقليم ومستحقّات الحكومة الاتحادية على إربيل للسنوات الماضية، إضافة إلى تسليم السيطرة للقوات الاتحادية على المنافذ الحدودية.
ما زاد في تعقيد الأزمة التي تواجهها قيادة إربيل هي حالة الفراغ الدستوري الذي تعيشه، فرئاسة الإقليم مستمرّة بعد انتهاء ولايتها وعدم وضوح الموقف من إجراء انتخابات جديدة
طالباني يهدّد بالانفصال
بالتزامن مع تزايد مستوى الخلافات بين بغداد وإربيل والتوجّه نحو المزيد من التأزيم، كانت السليمانية بقيادة بافل طالباني و”حزب الاتحاد” تتّجه إلى إعادة النظر في الشراكة مع “الحزب الديمقراطي” بقيادة بارزاني، على خلفية العلاقة المتوتّرة حول تقاسم الأدوار في إدارة الإقليم وتوزيع السلطات والمراكز المفصلية. ووصلت الأمور إلى حدّ أن يهدّد طالباني بإمكانية الانفصال عن الإقليم، سواء باتجاه تشكيل إقليم جديد تحت قيادته أو الانضمام إلى الحكومة الاتحادية مع المحافظات الواقعة تحت نفوذه، خاصة بعدما لمس حزب الاتحاد الوطني وطالباني وجود نوايا لدى قيادة إربيل لإخراجهم من القرار وإلغاء دورهم في إدارة الإقليم. إضافة إلى الحصار الاقتصادي الذي تمارسه إربيل في موضوع رواتب الموظفين والتخصيصات المالية للسليمانية.
لقد أسهمت تحالفات طالباني مع بغداد ومن ورائها طهران في تعميق الخلافات مع إربيل، خاصة بعد الدور الواضح الذي لعبته الأخيرة في دعم الجماعات الانفصالية والأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة والسماح لها بإقامة معسكرات واستخدام أراضي الإقليم لاستهداف الداخل الإيراني.
لم يكن، حركةً اعتراضيةً عابرةً وحسب تفجير أزمة كركوك الأخيرة، قبل نحو شهر، والمواجهات التي جرت بين أبنائها من العرب والتركمان والمؤيّدين لـ”حزب الاتحاد الوطني” وبين عناصر من البيشمركة التابعة لإربيل وقيادة بارزاني على خلفية عودة هذه العناصر إلى تسلّم أحد مقرّاتها الأمنيّة ذات السمعة السيّئة. لأنّ تدخّل المحكمة الاتحادية العليا وإصدارها أمراً ولائياً يلغي قرار الحكومة تسليم المقرّ لقوات البيشمركة لم يكونا فقط نتيجة عائدية المبنى لإحدى الوزارات الاتحادية، بل كان منسجماً مع مسار محاصرة إربيل وإعادة تعريف دورها وحدود نفوذها.
ما زاد في تعقيد الأزمة التي تواجهها قيادة إربيل هي حالة الفراغ الدستوري الذي تعيشه، فرئاسة الإقليم مستمرّة بعد انتهاء ولايتها وعدم وضوح الموقف من إجراء انتخابات جديدة. إضافة إلى أنّ برلمان الإقليم قد انتهت ولايته ولم يحدَّد موعد لانتخابات جديدة. هذا في وقت استُبعدت السليمانية عن القرار بعد توزيع المراكز الأساسية في الحكومة المحلية على الحزب الديمقراطي فأُعطي نيجرفان بارزاني رئاسة الإقليم وتولّى مسرور بارزاني رئاسة الحكومة وريبر أحمد بارزاني وزارة الداخلية، إلى جانب إمساك إربيل بالقرار المالي والتحكّم بمداخل الإقليم.
إقرأ أيضاً: بارزاني وطالباني: تقسيم المُقسّم…
دفعت هذه التطوّرات قيادة إربيل إلى البحث عن مخارج وحلول بكلّ الاتجاهات، فزار طهران رئيس الإقليم نيجرفان من أجل الوقوف على موقفها ممّا يحدث بين الإقليم وبغداد ومعها طالباني، وتوجّه إلى بغداد رئيس الحكومة مسرور في محاولة للتوصّل إلى تسوية معها تسمح له باستعادة بعض ما خسره من نفوذ، خاصة أنّ اللغة اللينة التي استخدمها في مفاوضاته مع بغداد اختلفت كلياً عن لغة التهديد التي استخدمها قبل الزيارة.