دائماً هكذا: ننتظر الفرح من الشرق فيأتينا من الغرب، حتى ليخيّل إليّ أحياناً أنّ الفرح عدوّ. رِزقنا مقسّم في السماء، لكن لا نعرف من أيّ جهة يأتي على الأرض. هذه حالنا نحن اللبنانيين: بينما نغرق في لبنان في بحار الأزمات والمحن والفراغ، يرتفع لبناني على الضفة الأخرى للمتوسط، ويلمع في سماء الغرب ليضيء الشرق ربّما، علّ رحمةً من العلياء تحلّ علينا.
نذهب عميقاً في التراب ويذهب أمين معلوف عميقاً في سماء الفكر والثقافة والإبداع. ننتقل نحن من فراغ في منصب إلى فراغ في منصب آخر، ومن أزمة إلى أزمة، ومن حدود إلى حدود. وعلى الجهة المقابلة، جهة لبنان التي لا تشير إلى غيرها بوصلة الوطن، يتنقّل أمين معلوف من منصب رفيع إلى آخر أرفع، ومن رواية إلى دراسة تاريخية إلى مسرحية شعرية. يرفع اسم لبنان عالياً بينما ندفنه عميقاً في التراب، نحن، هنا.
حكاية شعب ووطن
بينما نغرق نحن في هويّاتنا القاتلة والضيّقة، ونمعن في التجزئة والتفريق والتمييز والعنصرية، يسعى هو إلى تأليف هوية ثقافية متوسطية. وإلى شرق وغرب يلتقيان دائماً. ولم لا؟ نحن أهل بحر كما نحن أهل برّ ويابسة. وفيما ننتظر رئيساً يتوافق عليه الشرق والغرب، وترضى عنه الدول، يتقدّم أمين معلوف بخطى ملكية، وبإجماع شبه كامل على غير الطريقة العربية، نحو منصب السكرتير الدائم للأكاديمية الفرنسية، بعد سنتين من انضمامه إليها.
يختصر أمين معلوف سيرتنا نحن اللبنانيين في سيرته وأدبه. بل يختصر لبنان كلّه، ويمثّله خير تمثيل. حكايته حكاية وطن بين الشرق والغرب. مزيج من أعراق وأجناس وجنسيّات وهويّات وأديان وطوائف ومذاهب وثقافات. وطن من يابسة وبحر، تعبره أنهار كثيرة. وطن مقيم وآخر مهاجر. وطن خلف البحر وأمامه وفوقه.
يختصر أمين معلوف سيرتنا نحن اللبنانيين في سيرته وأدبه. بل يختصر لبنان كلّه، ويمثّله خير تمثيل. حكايته حكاية وطن بين الشرق والغرب
حكايته حكاية اللبنانيين أيضاً بغالبيتهم الغالبة. نزوح فإخفاق فهجرة فنجاح فرفع اسم لبنان عالياً. يهربون من التشرذم والتباغض والتناحر… والتعايش، فيلمعون في العيش والوحدة والتسامح والمحبّة والحوار. لعنة الجغرافيا ربّما… أو سحر الشرق. الشرق الذي رسمه معلوف للغرب بالحقائق والمعلومات التاريخية. الشرق الذي يشرق في الغرب.
أدب البحر
لجّة (تُقال للبحر وتجمعات المياه الكبيرة) أدب أمين معلوف. تغوص فيه فلا تخرج إلا بالمحار، وإلا على شاطئ متوسطي في مكان ما عند أطراف البحر الأبيض المتوسط. بحر الفينيقيين والكنعانيين والفراعنة والإغريق والرومان والعرب. هو بحر للفرس أيضاً. وبحر للفرنسيين والإيطاليين واليونانيين والأتراك والعرب من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق العربي. بحر اليهود والمسيحيين والمسلمين. بحر الله وبحر التسامح.
في ليون الإفريقي، ينطلق الحسن بن محمد الوزان، والد يوسف، من الأندلس إلى المغرب فمصر عابراً شمال إفريقيا وصولاً إلى إيطاليا، مارّاً بالأديان السماوية الثلاثة. وفي “حدائق النور” ينطلق ماني من الإمبراطورية الساسانية الفارسية محاولاً التوفيق بينها وبين الإمبراطورية الرومانية، داعياً لآلات الموسيقى والتسامح والمساواة. وفي “موانئ الشرق”، البطل عصيان كتبدار الذي وُلد في تركيا مسلماً عثمانياً ذا جدّ أرميني، وترعرع في لبنان، ودرس في فرنسا ينتهي إلى الجنون. وفي “صخرة طانيوس” يُقتل البطريرك اللبناني ببارودة إنكليزية عليها بصمات فرنسية. جريمة قتل عابرة للمتوسط والقارّات.
يتناول أمين معلوف العلاقات بين الأفراد، وبين الأديان، وبين الحضارات والقارّات والشواطئ، ويخوض فيها على أجنحة التسامح والمساواة والحوارات ودفن الأحقاد
في إنتاجه كلّه، يتناول أمين معلوف العلاقات بين الأفراد، وبين الأديان، وبين الحضارات والقارّات والشواطئ، ويخوض فيها على أجنحة التسامح والمساواة والحوارات ودفن الأحقاد. يستحضر التاريخ ليمجّد المستقبل. يدلّنا على البحر، على حضاراته وثقافاته وعلى تفاعلنا معها عبر القرون، ويهزّ الشرق لتفوح روائحه الزكيّة.
أمّا في إنتاجنا نحن أهل الإقامة، على مضض، في الوطن المقيم، فلا إبداع أشدّ تأثيراً ووطأةً من الفراغ. من التقاتل والتنافر والأحقاد.
بين مقعدين
في 15 حزيران 2021، انضمّ أمين معلوف إلى الأكاديمية الفرنسية ليشغل مقعد عالم الاجتماع الشهير كلود ليفي ستراوس. بعدها كتب رواية “مقعد على ضفاف السين”، روى فيها حياة الأشخاص الثمانية عشر الذين تعاقبوا على المقعد التاسع والعشرين في الأكاديمية الفرنسية منذ عام 1634، ومغامراتهم. اليوم، بعد سنتين ونيّف من انضمامه إليها، أمين معلوف حسب صحيفة “لو جورنال دو ديمانش”، هو المرشّح الأوفر حظّاً لشغل منصب السكرتير الدائم للأكاديمية الفرنسية خلفاً للكاتبة الراحلة هيلين كارير دانكوس، وذلك “لصفاته الإنسانية ولتنوّع ثقافته العالمية”.
هذا هناك، على الضفة الأخرى، في المهجر، وبعيداً عن الشرق. أمّا هنا والآن، ففراغ في الكرسي الأوّل في البلاد، في انتظار أن يشغله الرئيس الرابع عشر، وشغور في كرسي حاكم مصرف لبنان، وربّما قريباً شغور في قيادة الجيش.
إقرأ أيضاً: أبو يوسف: عاد إلى الجنوب عبوةً تنتظر المحتلّ
أين لبنان من لبنانيّ اسمه أمين معلوف؟ لقد هجّروه سابقاً، دفعوه بعيداً بحروب الآخرين على أرضنا. وطن لا يتّسع إلا للأسلحة ومن يقف خلفها ومن يحضنها. لبنان لا يتّسع للأسئلة، ولا حاجة إلى التسامح في هذا التعايش المشترك. من تحرّك داعماً باستثناء قلّة أقصى ما تفعل التغريد على “إكس”؟ أين الدولة؟
حقّاً أين الدولة؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@