يندر أن ضُبطت إيران متلبّسة بهذا المقدار من التناقض في التعامل مع لحظة استراتيجيّة كبيرة مثل اللحظة التي يعيشها الشرق الأوسط منذ الهجوم الذي شنّته حماس على إسرائيل في السابع من تشرين الأول، والذي أشعل أعنف حرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ عام 1948.
نأت إيران بنفسها عن أيّ دور عمليّ أو قيادي في الهجوم الحمساوي، تماشياً مع نهجها التقليدي في أخذ مسافة من الاشتباكات المباشرة وإسباغ مقدار من الاستقلالية على قرارات وكلائها وحلفائها. انقلب هذا الموقف بتصريح مفاجئ للمتحدّث باسم الحرس الثوري الإيراني العميد رمضان شريف، قال فيه إنّ “طوفان الأقصى جزء من الانتقام لاغتيال الشهيد سليماني”. وما لبثت أن اتّخذت هذه الرواية منحىً آخر عندما سحب قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي، تصريح شريف، مؤكّداً أنّ هجوم 7 تشرين الأول كان عمليّة فلسطينية بحتة، ولا علاقة لها بإيران أو سليماني.
المحاولة البائسة
لا يثير هذا التناقض تساؤلات حول سلامة التنسيق والإدارة داخل مؤسّسات إيران، كالحرس الثوري، بل يعكس أيضاً التحدّيات التي تواجهها الحسابات الدقيقة في سياسة إيران الخارجية. فبين الإنكار ثمّ التبنّي ثمّ الإنكار، يتّضح أنّ إيران تبذل جهوداً جبّارة لتجنّب التصعيد والحفاظ على الاستقرار الإقليمي. ومن ناحية أخرى، فإنّ اللحظة الوجيزة التي ادّعى فيها الحرس وجود صلة بالهجوم جاءت كمحاولة بائسة لتأكيد نفوذ إيران ودورها في العمق الاستراتيجي في المنطقة.
إيران لا تدافع اليوم عن غزة، بل عن استثمار عمره 45 عاماً أنتج كلّ هذا اللااستقرار والتفكّك في منظومة توازن القوّة وصراعات النفوذ والجغرافيا السياسية الإقليمية
على الصعيد الداخلي، تعكس التناقضات في خطاب إيران، بخصوص دورها في عملية 7 تشرين الأوّل، التحدّي الدائم الذي يواجهه نظام الملالي والمتمثّل في الحفاظ على هيبته المتداعية. كغيرهم حول العالم، يتابع الإيرانيون تصاعد مستويات الإذلال الذي تتعرّض له بلادهم، سواء في عدم قدرتها على الردّ على استهدافات إسرائيلية وأميركية استراتيجية لها، أو في ظهورها بمظهر الدولة المردوعة في الملفّ الفلسطيني والعاجزة عن الارتقاء إلى مستوى التحدّي الذي تمثّله حرب غزة. يعرف قادة النظام حقّ المعرفة أنّ من شأن ذلك تسريع تآكل ثقة الشعب الإيراني بهم، وهو ممّا لا خطر يفوقه حجماً، في بلد تقوم فيه شرعية الحكم على الاستثمار الدائم في تجييش المشاعر القومية والدينية.
ليس من باب الصدف أن يأتي تصريح المتحدّث باسم الحرس متبنّياً عملية “طوفان الأقصى”، الاسم الذي أعطته حماس لهجوم 7 تشرين الأول، بعد ساعات من الإعلان عن اغتيال القائد العسكري البارز في الحرس رضا موسوي، جرّاء قصف إسرائيلي استهدف منطقة السيّدة زينب في دمشق.
عليه، يعكس تناقض التصريحات ما هو أكثر من مناورة دبلوماسية، كاشفاً عن توتّرات أعمق داخل النهج الذي تتبنّاه إيران في التعامل مع التطوّرات الإقليمية في ضوء حرب غزة. لطالما نجحت إيران، منذ نهاية حربها مع صدّام حسين، في التوفيق بين أهميّتها الاستراتيجية، وبين حرصها على عدم التورّط بشكل مباشر في حرب واسعة النطاق. بيد أنّ إدارة هذه الاستراتيجية تزداد صعوبة في ضوء الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة على الفلسطينيين، التي باتت تهدّد التوازن الذي حمى على الدوام تطلّعات إيران الإقليمية.
السردية الإيرانية المرتبكة
على الصعيد الخارجي، يمتحن هذا الأداء المرتبك السردية الإيرانية عن كون طهران قوة إقليمية هائلة، وعاصمة تقود العالم الإسلامي من بوابة دعمها الحاسم للقضية الفلسطينية. بيد أنّ الفجوة المتعاظمة بين القول والفعل في مسائل التموضع الاستراتيجي، تقلّص نفوذ إيران وتقزّم مصداقيتها بين حلفائها وخصومها على حدّ سواء.
علاوة على ذلك، تتأثّر الصياغة الاستراتيجية للموقف الإيراني، وما تنطوي عليه من تناقضات، بديناميكيّات التنافس الإقليمي الذي تجدّد من بوّابة الصراع على الورقة الفلسطينية، لا سيّما في ضوء ضعف ردّة الفعل الإيرانية لنصرة غزة، وفقدانها بالتالي لورقة المزايدة على خصومها كمصر وتركيا.
منذ 7 تشرين الأول برزت أصوات حمساوية داخل غزة وخارجها، إمّا تدعو إيران لأدوار أكبر، وإمّا تعبّر بشكل مبطّن عن خيبة أمل من مستويات ردّ الفعل المتدنّية الصادرة عن طهران ووكلائها. تكشف هذه التصريحات مستوى المبالغة في توقّعات حلفاء إيران منها، وتضعهم وجهاً لوجه أمام كلفة التبعيّة لها.
صحيح أنّ الدعم الإيراني، بالنسبة لحماس والجماعات المماثلة، أمر بالغ الأهمية، إلا أنّ حرب غزة فضحت للمرّة الأولى بهذه العلنية حدود هذا الدعم وطبيعته المشروطة، وكشفت عن هشاشته حين يتعلّق الأمر بالتعقيدات الاستراتيجية التي على إيران أخذها بعين الاعتبار. فعلى الرغم من زيادة وتيرة التدخّل، عبر ميليشيات إيران في العراق واليمن ولبنان، إلا أنّها لا تزال دون المستوى المؤثّر في مجريات الميدان في فلسطين ولا تعدو كونها إجراءات الحدّ الأدنى التي بالكاد تحفظ للمحور ماء وجهه.
وإذ تتصدّر مصر مشهد الحراك السياسي والدبلوماسي، لوضع حلول نهائية لملفّ غزة، برز اتّصال هاتفي هو الأوّل من نوعه بين الرئيسين المصري والإيراني عبد الفتاح السيسي وإبراهيم رئيسي، تركّز على البحث في أوضاع غزة وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. يشير هذا الاتصال الأوّل وسط الحرب، إلى قلق إيران من الدور المصري المتصاعد في القضية الفلسطينية، مستفيدةً من شروط أفضل لتوظيف نفوذها التاريخي ومشاركتها النشطة في التوسّط في الصراعات في غزة، بالإضافة إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي وعلاقاتها الطويلة مع كلّ من إسرائيل وفلسطين. إن كان ما بعد 7 تشرين الأول ليس كما قبله بالمعنى العامّ للكلمة فإنّه كذلك بالنسبة للتنافس المصري الإيراني على لعبة النفوذ في الشؤون الفلسطينية، بما يشكّل تحدّياً غير مسبوق لمصالح إيران الاستراتيجية.
والحال، فإنّ اتصال رئيسي بالسيسي ليس أقلّ من محاولة إيرانية لإعادة ضبط استراتيجيّتها الإقليمية، والاعتراف بالحاجة إلى العمل مع النفوذ المصري المتنامي، وليس ضدّه، رغبةً في الحفاظ على مصالحها في أيّ تسوية إقليمية مقبلة. تدرك طهران أنّ المعادلة الفلسطينية التي ستولد من رحم غزة قد تحمل إعادة رسم شاملة لكامل الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، وهو ما يعني أنّها ستكون بحاجة إلى قنوات دبلوماسية وهيكليّات سياسية جديدة لإدارة نفوذها وحماية مصالحها.
إيران قلقة من تركيا
تنظر طهران بعين القلق إلى ما يصدر عن النخبة التركيّة من رغبة في تولّي أنقرة زمام القضية الفلسطينية، في ضوء ضعف الإسناد الإيراني للفلسطينيين. ولعلّه بدافع من هذا القلق، يقوم الرئيس الإيراني بزيارة تركيا في الأسبوع الأوّل من العام المقبل، لضمان ترتيبات مماثلة كتلك التي يحاول هندستها مع القاهرة.
إقرأ أيضاً: المبادرة المصريّة في سياقها السياسيّ
في خضمّ التضارب والارتباك اللذين يميّزان تعامل إيران مع الصراعات في الشرق الأوسط، لا سيّما بين حماس وإسرائيل، تجد أنقرة فرصة استراتيجيّة لتأكيد نفوذها الإقليمي. على النقيض من إيران، التي تصارع على جبهات الحلفاء والخصوم دفاعاً عن صورتها، تحتفظ تركيا لنفسها بمكانة فريدة ومفيدة من خلال الاحتفاظ بالعلاقات التجارية مع إسرائيل، ورفض تصنيف حماس كمنظمة إرهابية في الوقت نفسه. يسمح هذا النهج المزدوج لتركيا بإبحار تركيّ سلس عبر القنوات الدبلوماسية المعقّدة، وهو ما لا تستطيع إيران القيام به حالياً. علاوة على ذلك، فإنّ استعداد تركيا لتصعيد خطابها ضدّ إسرائيل، كالمقارنة التي عقدها الرئيس رجب طيب إردوغان بين القيادة الإسرائيلية وهتلر، يدلّ على استعدادها لتبنّي دور أكثر حزماً في السياسة الإقليمية، بشكل لا يخاطب مشاعر الجماهير المحلّية والإقليمية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية وحسب، بل يصنع من تركيا لاعباً محورياً في الشرق الأوسط، جاهزاً لملء أيّ فراغ في القيادة ينشأ عن المآزق الإيرانية.
تختصر الارتباكات والتناقضات التي ميّزت تعامل إيران مع هجوم 7 تشرين الأول التحدّيات المتعدّدة الأوجه التي تواجه نظام الملالي، في سعيه إلى تحقيق التوازن بين طموحاته الإقليمية الثقيلة وواقعه الداخلي المترهّل وعلاقاته الدولية المرتبكة.
إيران لا تدافع اليوم عن غزة، بل عن استثمار عمره 45 عاماً أنتج كلّ هذا اللااستقرار والتفكّك في منظومة توازن القوّة وصراعات النفوذ والجغرافيا السياسية الإقليمية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@