معبّر جدّاً أن تنتهي هذه السنة، بأن اختارت مجلّة “تايم”، تايلور سويفت شخصيّة العام. فيما خيارات منطقتنا تراوح بين السنوار والضيف وأبي عبيدة.
الأولى المغنّية الأميركية التي أنجزت سنة 2023 جولة استعراضية تاريخية. تخطّت عائداتها مليار دولار. حتى سجّل فرح معجبيها هزّة أرضية على مدرّجات إحدى محطّاتها.
مرشّحو منطقتنا أنجزوا اقتحاماً غير مسبوق لكيان إسرائيل. وسجّل مقاتلوهم طوفاناً جرف الكثير من حدود السياسات المحلية والدولية ومعها عشرات آلاف الضحايا… ولمّا ينتهِ بعد.
هكذا نحن إذاً بين عالمين. أو كوكبين. أو حتى كونين مختلفين إن لم نقل متناقضين.
لكنّ ما هو العامل المؤسّس لهذا الاختلاف؟
هل هو الإسلام السياسي؟ هل هي طبيعة إمبراطورية أميركا؟ أم هي فلسطين التي تختزل المسائل الثلاث وأكثر منها؟
******
تعود جذور المشكلة ربّما إلى تلك الجلسة الثلاثية الحميمة بين أبطال الحرب الثانية. حين التقى روزفلت وستالين وتشرشل ليقتسموا العالم في يالطا. كان ثالثهم في خريف دولته العظمى وغسق شمسها التي كانت لا تغيب عنها ذات يوم. وكان ثانيهم يتحفّز لنشر بيارقه الحمر دماً وأيديولوجياً، شرقاً وغرباً. وكان روزفلت يكتشف سريعاً أنّ عالم ما بعد الحرب سيكون منقسماً بين واشنطن وموسكو لا غير.
قيل إنّه منذ تلك اللحظة أو قبلها حتى، بدأت خطّة حصار الدبّ السوفيتي. وكانت بديهية في وقائعها على الأرض. فوراً فكّر الأميركيون كالتالي: نحن أمام نظام توسّعي لا يحبّ ما يسمّى ديمقراطية وليبرالية واقتصاد سوق. ولا يطيق منظومات الآلهة والأديان ومقدّسات السماوات.
اكتمل المشهد الأميركي الجديد. وحدّدت واشنطن عدوّها المقبل، الذي اختارها بالتزامن مع اختيارها له
بالتالي تكون استراتيجية حصاره في الجغرافيا سهلة: عند حدوده الغربية ثمّة مجتمعات تتوق إلى النموذج الليبرالي. يكفي أن نعيد بناءها لتشكّل سوراً صلباً في وجه جدليّته التاريخية. وعند حدوده الشرقية ثمّة جماعات متجذّرة في دينيّتها. يكفي هي أيضاً أن نجمعها ونحضنها لتتحوّل جداراً شرقياً بوجه جبّار الشرق وجدليّته المادّية.
الحلم بـ”ماكدونالدز”
هكذا بدأت بذور الحرب الباردة. مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا الديمقراطية الليبرالية، النموذج المضادّ لموسكو الستالينيّة غربها، ومشروع إحياء العالم الإسلامي السياسي شرقها.
حتى إنّ البعض يستدلّ بواقعة بسيطة على ذلك. إنّ اللقاء الشهير على تلك البارجة “يو إس إس كوينسي” بين روزفلت والملك عبد العزيز، حصل بطريق عودة الأوّل من لقاء يالطا بالذات. وفي ذلك دلالة واضحة أو مصادفة تاريخية كاشفة أكثر من القصد ربّما.
المهمّ أنّ موسكو حوصرت. ثمّ تُركت أربعين عاماً لتضيّق الخناق على نفسها وتشدّ حصارها الذاتي بكلّ مقدّرات قارّتها الهائلة، وتختنق بشعاراتها الأمميّة ومؤتمرات الكومنترن، فيما سكّان غربها يحلمون بقضمة ماكدونالدز، وسكّان شرقها يقتاتون من طقوس التقيّة الدينية ضدّ إلحادها المرحوم.
حتى بدا أنّ إمبراطورية ستالين سقطت حيث أريد لها أن تسقط بالذات. بين أزمة بولونيا المسيحية التوّاقة إلى غربها. وبين وحول مستنقعات أفغانستان الإسلامية، الراسخة في شرق الآلهة والسماوات التي لا ترى في الأرض غير ساحة لحروبها المقدّسة الأبدية.
هكذا بين فاليسا المؤمن بالعذراء شفيعةً لنضاله النقابي في حوض غدانسك، وبين بن لادن المؤمن بإسلامه الجهادي العنفي، من تورا بورا إلى مانهاتن، شاخت موسكو مثل بريجنيف. حاولت أن تستعيد سطوتها وشباباً مصطنعاً، بين تشيرنينكو وأندروبوف. فبدت كما في يقظة ما قبل الموت.
بعدهما توهّم الرفيق غوربي بقدرته على إنقاذها بطلاسم الغلاسنوست وإكسير البيريسترويكا، قبل أن يعاجله يلتسين المخمور بقومية روسية مجبولة بشعبوية قيصرية.
فكان ما كان، ممّا لم يعد يذكره أحد، إلا ضابط الكي جي بي العتيق، المولود قبل رحيل ستالين ببضعة أشهر، والمسمّى على اسم لينين، والذي يعني اسمه الأوّل بالروسيّة: مالك العالم، بوتين!
مونوبولي الكوكب
يوم سقطت موسكو بين أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، انشغلت واشنطن فوراً بحركتين اثنتين: الاحتفال بنصرها. واستقراء خارطة العالم لتحديد خصمها المقبل في لعبة مونوبولي الكوكب.
تعود جذور المشكلة ربّما إلى تلك الجلسة الثلاثية الحميمة بين أبطال الحرب الثانية. حين التقى روزفلت وستالين وتشرشل ليقتسموا العالم في يالطا
الصين كانت دوماً بنظر الأميركيين، كناية عن سورها العظيم. أي ذلك التنّين العملاق المرتضي لنفسه تاريخياً وثقافياً، وربّما في عمق وجدانه البوذي الممتدّ في الماويّة، أن يكون منغلقاً على ذاته. مكتفياً بالدفاع عن حدوده، لا الخروج منها، ليتحوّل قطبا توسّعياً في العالم.
روسيا ما بعد يلتسين، لن تكون في أفضل حظوظها، أكثر من محطّة غازيّة، لا أمّة قوميّة، كما ردّدت صحافة واشنطن. أوروبا منضبطة حليفة… لم يبقَ من خصم في العالم.
هكذا كتب فوكوياما يومها عن نهاية التاريخ. بمعنى الانتصار النهائي لفكرة محرّكة للتاريخ على أخرى مناقضة. وترك في قراءته الهيغلية تلك، هامشاً بسيطاً لتساؤل عن الإسلام السياسي. وعن مدى قدرته على الحلول لاعباً جديداً في تلك المنازلة الكونية، بمواجهة روما الجديدة.
قبل أن يطمئن نفسه “بعجز الإسلام السياسي عن تقديم نموذج جذّاب لشباب العالم، من برلين وموسكو إلى الصين وأميركا”. فارتاح الرجل إلى “إنسانه الأخير”، قبل أن يجد نفسه طوال 30 سنة مضطرّاً إلى التصحيح والتوضيح والتعديل والتبديل في مقولاته.
أولى نتائج هزيمة موسكو السوفيتية وانتصار واشنطن، كان الكلام عن نظام عالمي جديد. سرعان ما بدأ يتبلور تحت اسم العولمة الأحاديّة القطب. ولوهلة بدا أنّ الأرض تتكيّف مع هذا النظام.
لكنّ راعيه أغفل حقيقة جوهرية. وهي أنّ في قلب العولمة، علّة كافية للقضاء عليها، إذا لم يتمّ فهمها ومراعاتها. فهذا النظام وُلد من إدراك أهل الأرض لضرورة تعاونهم لتأمين حاجاتهم المتزايدة، بظلّ مقدّرات الأرض المتناقصة.
بهذا الدافع ارتضى سكّان الكوكب كسر حدودهم الذاتية والوطنية، والذهاب نحو العولمة الشاملة اللاغية لكلّ حدود.
غير أنّ رعونة واشنطن في تلك اللحظة بالذات، ونزقها الإمبريالي بعيداً عن أيّ منظومة أخلاقية عالمية أو سلّم قيميّ كونيّ، سرعان ما أيقظا في العالم فوبيا الخوف على الهويّات الذاتية وذعر الخصوصيات الجماعية… فانطلقت سلسلة الحروب الصغيرة في كلّ الأرض، تحت أقدام القطب الجديد الأوحد.
وفيما كانت واشنطن متجاهلة بالكامل لتلك الجمرات الكامنة، راحت ترصد هويّة خصمها الجديد.
إقرأ أيضاً: عام نهاية القانون الدوليّ
ولم يتأخّر الإسلام السياسي الجهادي بجانبه العنفي، بتقديم أوراق اعتماده الحُمر لديها. من تفجير عدن 1992 إلى مركز التجارة العالمي في نيويورك 1993، لتكرّ السبحة في نيروبي ودار السلام. فيما كان الإسلام السياسي الشيعي يبلغ بوينس آيرس، وبين الاثنين كانت ثمّة مجموعة محدودة تعلن من أرض فلسطين ميثاقاً تأسيسياً لحركة مقاومة إسلامية، وتؤكّد ولاءها للإسلام السياسي في نموذجَيْه السنّي والشيعي، وأنّها ترى في أصل قضية فلسطين “مشكلة دينية مع اليهود”، لا قضية وطنية أو إنسانية أو قضية ظلم واحتلال وتهجير شعب فحسب.
اكتمل المشهد الأميركي الجديد. وحدّدت واشنطن عدوّها المقبل، الذي اختارها بالتزامن مع اختيارها له. وبدأت تعدّ العدّة لمواجهته ومحاصرته وفق النموذج الذي اعتمدته بنجاح مع موسكو قبل 60 عاماً. فوقع الخيار الأميركي على نقطة محدّدة في هذه المنطقة. حيث تفجّر منذ 20 عاماً بالتمام، البركان الأوّل لطوفان غزة الحالي.
أين حصل ذلك وكيف وما هي نهاياته؟ مسألة للمتابعة غداً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@